العرب - نظرا للحرب العالمية المصغرة وبالوكالة التي تدور رحاها في سوريا، يجري التلويح مؤخرا، كفزاعة، بإعادة رسم خرائط سايكس بيكو التي شكلت الإطار للدول الوطنية في العالم العربي ما بين الحربين العالميتين. ويتم التعامل مع هذا الاحتمال كتهديد لمستقبل الأمة العربية وكأنها في أحسن حال في الوقت الحاضر.
مراجعة الخارطة الأوروبية تؤكد أن الخرائط السياسية كانت وستظل، عرضة للتغيير بحسب تطور الأحداث وميزان القوى، وآخر دليل على ذلك جزيرة القرم وتنقلها بين روسيا وأوكرانيا؛ ناهيك عن الدول الغربية التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي. يفهم من طريقة طرح المسألة وكأنها مؤامرة دبرت بليل لإعادة تقسيم المنطقة، في نفي لمسؤولية الشعوب العربية وحكامها، كما للدينامية التي تربطهم في ما بينهم وبالعالم. فهل حقا كان سايكس بيكو مؤامرة نزلت بالعرب دون علمهم أو إرادتهم؟
نعلم أن الوحدة حلم راود العرب، ويراودهم، على اختلاف مشاربهم السياسية ومعتقداتهم وطوائفهم. وقد عرف العالم العربي عددا من الصيغ الاتحادية بعضها ما زال مستمرا حتّى اليوم، منها؛ جامعة الدول العربية واتحاد المغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي.
لم يتوصل العرب إلى الصيغة الملائمة التي تتعدى الالتباس بين الدعوات إلى الصيغة الوحدوية المركزية الاندماجية، وبين الصيغ الاتحادية الدستورية. فلا يزال المخيال العربي يعيش حلم الدولة العربية التي أرادها على أنقاض الامبراطورية العثمانية. لا يزال الكثيرون يعتبرون أن العالم العربي كان موحدا في إطار دولة واحدة بالمعنى الحديث للكلمة. لكن هذا الوهم لا يرتكز إلى معطيات جدية، فالكيانات التي كانت قائمة زمن الدولة العثمانية عبارة عن أقاليم لكل منها خصوصياته وطريقة تعامله من قبل السلطات المركزية نفسها. لا يمكن اعتبارها دولا بالمعنى الحصري المعطى حديثا للكلمة. من هنا يفقد الكلام عن وحدة اندماجية كالتي كانت سائدة منذ قيام الدولة الوطنية العربية الحديثة معناه. من الأجدى البحث عن صيغ خلاقة وجديدة تلائم تحديات العالم المعولم.
ربما كان اللبناني يوسف كرم (1823 – 1889)، أوّل من طرح الكونفدرالية كصيغة لاتحاد “أبناء اللغة العربية في الأقاليم السورية”، في الرسائل التي وجّهها إلى الأمير عبدالقادر الجزائري في العام 1877، طارحا فيها مشروعه لقيام “سلطنة عربية”، وهي أقرب إلى اتحادية دستورية تشمل أكثر من كيان أو قطر أو دولة أو إقليم. تكون هذه الأقاليم مستقلّة، يسهر كلّ إقليم منها على صيانة إمارته، وترتبط مصالحه مع مصالح الحكومة الرئيسية، ويستمد قوّته منها لتؤلّف اتحادا وثيقا بالمصالح والحقوق. من أبرز الأخطاء في المنطقة العربية هي اعتبار أنها كانت وطنا موحدا لا حدود داخله إلى أن قام الاستعمار بتقسيمه.
لقد اصطدمت خطط فرنسا وبريطانيا بعقبات على أرض الواقع أجبرتهما على تعديل خططهما الأساسية. فهما كدولتين استعماريتين ساهمتا في نشوء الدول العربية في شكلها الحالي، ولكنهما لم تنفردا بعملية خلق هذه الدول. أما الإصرار على أن المستعمرين تفردوا برسم حدود الدول والتلاعب بها بحسب مصالحهم مع تحديد مصيرهم، فهذا أمر ينتقص من العرب أنفسهم كما أنه ينكر مسؤوليتهم عما حصل وعن ترسيم حدود دولهم. صحيح أن الغرب ساهم في عملية تشكيل دولهم، لكن العرب لم يكونوا غائبين عنها كذلك.
تجربة الدولة الحديثة في حدودها التي برزت في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية حسب اتفاقية سايكس بيكو لم تكن اعتباطية، بل جمعت بين الخصوصية الثقافية للشعوب إضافة إلى شعورها الوطني الممتد بالانتماء إلى تاريخ مشترك. وساعدت في تأسيس هذه الأوطان الروابط الاجتماعية والأنثروبولوجية الموجودة في كل دولة من الدول التي نشأت، كما أن تجربة الدولة الوطنية فيها بلورت هذه الروابط وعمقتها.
ومن الملاحظ أن الثورات أعطت للدولة وللشعور الوطني شرعيتهما الكاملة، وبرهنت في نفس الوقت على توافر الكثير من العناصر المشتركة بين الشعوب العربية، بحيث نجد أنها لا تعتمد على العرق ولا على اللغة وحدها، بل تستند إلى تجربة ثقافية ممتدة في التاريخ تجتمع في مكوناتها عناصر داخلية تعبر عن نفسها في الشعور بضرورة العيش المشترك (على الطريقة اللبنانية) وتجمع بينها خصوصيات اجتماعية وتقاليد تحملها اللغة كما تطورها أيضاً تجربة العيش في فضاء مشترك على عدة صعد. وبعضها له وجود تاريخي ممتد؛ مصر، العراق، المغرب.
كما نلاحظ مؤخرا اكتساب الدولة الوطنية شرعية حقيقية لوجودها: مصر، تونس، المغرب، لبنان، سوريا، السعودية، اليمن، العراق. وليس علينا سوى الانتباه إلى الحساسيات بين مختلف هذه الوطنيات، التي تبرز من وقت لآخر في الإعلام سواء في ما يتعلق بالرياضة أو بالبرامج التلفزيونية.
ومن مجمل ما يطفو من صراعات، صارت الدولة الوطنية تبدو واقعا ومطلبا حقيقيا، وكأن الأحداث أكسبتها الشرعية التي افتقدتها طويلا في ظل الحنين إلى امبراطورية قومية عربية أو خلافة إسلامية. ربما حان الوقت لبلورة نوع من الوحدة المناسب في ما بينها، وحدة غير ذوبانية، حيث صار يصبح بإمكان الشعوب أن تحقق حلمها بنوع من الاتحاد الديمقراطي المتقدم البعيد عن الطابع الشوفيني الذي طبع الحركة القومية العربية في نفيها للآخر وعدم الاعتراف به.
وإذا قارنا الوحدة العربية المفترضة، بالاتحاد الأوروبي الذي يمرّ بأزمات تصل إلى تهديد وجوده، لأن هويّة الوحدة الأوروبية السياسية لا تتطابق مع هويّتها الثقافية ولا تجمع بينها لغة، سوف نجد أن الوحدة العربية التي لم يبدأ بناؤها الفعلي بعد، على الرغم من المحاولات المشار إليها، تتوافر فيها العوامل والمكوّنات التي تطابق بين هويّتها السياسية والثقافية الممكنة، وتجعل بناءها، إذا انطلق، ولو في زمن الخراب الكبير الذي تعيشه الأمة اليوم، أكثر نجاحا وثباتا.
من هنا تأكيدنا على التمييز بين مستويين: المستوى الوطني من خلال مفهوم الوطن: الوطن اللبناني والوطن المصري والسوري والتونسي والمغربي والسعودي واليمني، والمفهوم القومي أو الثقافي العربي العام على مستوى مجموع الدول العربية. وعطفا على ما يجري من أحداث وبعد عاصفة الحزم نجد أن هذه الأخيرة تساعد على بلورة وتحديد هذين المصطلحين:
تدافع كل دولة على حدة عن مصالحها وأمنها الوطني (مع تضمينه فكرة الدولة المدنية الديمقراطية التي تساوي بين مواطنيها وتسهر على كرامتهم وحقوقهم وحرياتهم) في معرض دفاعها عن مجمل الأمن القومي العربي الذي يعني أمن واستقرار واستقلال جميع هذه الدول تجاه الاعتداءات الخارجية من دول عدوة سواء قومية أو دينية، وذلك بعد أن تتوصل إلى جعل الجامعة العربية على غرار الاتحاد الأوروبي. أي ضمان استقلال وسيادة كل دولة على حدة، والتعاون تجاه ما يهدد الأمن القومي العربي.
هذا ما يبدو أنه اتجاه الدول العربية حيث نلاحظ عبر الكثير من الأحداث الفرعية التي حصلت مؤخرا ما يدل على نوع من استتاب الاعتراف بالدولة الوطنية في حدودها “السايكسبيكية”، وفي بروز نوع من التخوف من القضاء على هذه الحدود لمصلحة ما تنادي به داعش وأمثالها من دولة الخلافة أو الدول التي تعتدي على الشعب السوري بحجة الحفاظ على شرعية الحكم، وللمفارقة، القائم فقط بسبب دعمها له.
ولأن التاريخ تعاقب متواصل للأحداث، والتكيف هو القانون الذي يسمح بالتطور، طبيعي أن تكون لكلّ مرحلة بصمة تمنحها خصوصيّتها، لذا ينبغي إعادة صياغة لمفهوم العروبة الثقافي أولا، والمستند إلى الماضي ليس لرفضه ولا لتمجيده بل لقبوله كتاريخ من أجل التحرر منه والانطلاق إلى آفاق تناسب مرحلة العولمة التي نعيشها والتحديات التي تفرضها على دولنا. لا أحد يملك هذا الماضي المشترك ليصادره ويتكلم باسم الشعوب، لا من القوميين العرب التقليديين، ولا الإسلاميين السياسيين بمختلف مشاربهم. من هنا إذا تغيرت الخرائط مجددا حسب مصالح الشعوب ورغباتها في الحرية والحقوق ودولة القانون، فلن تكون في ذلك نهاية العالم في ظل وحدة على الطراز الأوروبي.