الحياة - تشعر أحياناً حين تستعرض مثل هذه الألعاب السياسية وتقرأها من منظور فطري مبسط، أن هناك مفردات منتقاة بعناية كالهدنة والتهدئة والوساطات والحلول يتم إحضارها بين حين وآخر حتى ينشغل بها الرأي العام وتخدر الاحتقان الشعبي وتملأ طاولات بيع الكلام بالحوارات والنقاشات والسخونة الظاهرة، فيما الدماء تنزف بكثافة والمآسي تتنامى والشعب السوري يعيش سواداً لم يسبق أن عاشه قطر آخر بالمقارنة مع تكاثر الخونة والمخادعين والمتاجرين بقضيتهم على أكثر من نطاق ونحو جملة من الأهداف المتسخة.
منذ ولادة الكارثة السورية ونحن نسمع جملاً تبدأ بـ «نحن ندرك حجم التهديدات ونشدد على الالتزام، وماضون إلى، ونؤكد أن ثمة رغبة لوقف العنف، والمشهد تحت عنايتنا ورعايتنا واهتمامنا»... وما إلى ذلك من الجمل المنتفخة على سواد في النوايا، وما أن يُكشف تضليل إحدى هذه الجمل إلا وتقفز الأخرى إلى الواجهة كي تترك لكثير من الوجبات السياسية وقتاً للنضج وإضافة ما تيسّر من البهارات والمصافحات والتنازلات التي تفصح باستفزاز متدرج أن فرص السلام في سورية ليست قريبة ولا يسيرة ولا محفزة على مستقبل متصاعد التفاؤل وباعث على ثقة أعلى في من كان قدر العرب أن يثقوا بهم وتحت وقع المرارات والجراح الدامية.
لا نريد أن نضحك على أنفسنا ونتوقع أن واشنطن وموسكو قادرتان على مد خطة لوقف إطلاق النار في سورية، أو ما عرف بالهدنة الموقتة، فالعاقل الذي يقرأ خطة العمل بنوايا صادقة منزوعة من الخبث والمصالح وساعية لإنقاذ الإنسان السوري المغلوب على أمره يؤمن تمام الإيمان بأن مسببات الفشل على الأرضية السورية لهذه الهدنة أكبر وأعمق من مقومات النجاح، ومن يقرأ بنود الاتفاق بدقة فسيشعر بأن هذه الهدنة كُتبَت على سبيل الثرثرة المجانية المتكئة على عناوين «نحن نعمل ونفكر فيكم ونسعى لأن ندعم التحول السياسي وندعم أطراف الصراع لتسوية منتظرة»، على رغم أن التسوية من عناوين الحق التي أريد بها باطل حتى تاريخه وطال العبث بها والعزف على نغمها.
على العرب أن يعترفوا بأن ثمة أزمة كبرى في الاعتراف بالنوايا الحسنة لكل من واشنطن وموسكو ومن سار معهما، مثل إيران، والاعتراف مبني على واقع ناسف ومؤسف، وأثبتته مجريات ومعطيات ليست قصيرة الأجل بل تحملها سنوات من المراوغة والتدخل المؤسف والتلاعب بالجمل والألفاظ ونقل الجهود الشكلية من منبر إلى آخر، ولعل من المستفز أيضاً أن يقول مسؤول في الخارجية الأميركية إن نجاح وقف إطلاق النار من شأنه أن يحيي العملية السياسية، وإن كانت كلمة «العملية» حلّت في عبارته بالخطأ أو من بوابة عبث التصريحات، إذ إن من الأجدر أن تحل محلها «اللعبة»، لأنها أصدق وأوضح، وبعيداً من كل أوراق اللعب والنوايا المضطربة، فإن أي محاولة لإعادة إحياء سورية من دون نزع كامل لبشار وزمرته لا تعني إلا زيادة لسعة الذاكرة العربية السوداء ومزيداً من الاستثمار في دماء الأبرياء، واستمرار سورية نحو الاحتراق الكامل كـ «عار في جبين من يدعي وينظر ويقفز ببالونات حقوق الإنسان وإحياء السلام والأمان لشعوب العالم».