العرب - لم يتبق للرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض سوى بقايا سنة أخيرة من فترة حكمه، وفي الوقت الذي تتسارع فيه إيقاعات الحملة الانتخابية بين مرشحي الحزبيْن الديمقراطي والجمهوري، تزداد الرغبة في مطالعة بعض الملفات على مكتب الإدارة الأميركية التي عانت من الإهمال وعدم الجدية في الحل، بما فاقم من حجم المشاكل واتساع مساحتها وتغلغل جذورها، ولم تنفع كل مبررات التصريحات لإضفاء العقلانية على تصرف دولة عظمى مثل أميركا في ما يخص سياستها الخارجية، وهو ما سيطبع الانتقادات العامة لفترة حكم الرئيس أوباما.
حديث الرئيس الأميركي أثناء لقائه بوفد من قادة دول الخليج العربي لتطمينهم بعد الاتفاق النووي مع إيران، والذي أشار فيه إلى ضرورة أن تجد دول المنطقة حلولا لأزماتها بنفسها، وعدم اللجوء إلى الولايات المتحدة كبديل جاهز وعلى أهبة الاستعداد لفض النزاعات الداخلية أو بين الدول، ربما في ذلك الخطاب المباشر دلالة موجزة تبسط وصف تخلي أميركا عن دورها ليس في إحلال السلام، إنما في تعميق الإرهاب وتمدده إلى بؤر توتر عالمية.
أوباما، بتعبير آخر، أراد أن يقول إن أميركا لها همومها مثل بقية دول العالم، وعليها أن تلتفت إلى تنمية اقتصادها ومجموعة التزامات داخلية على صعيد التأمين الصحي وقضايا المهاجرين وسلامة أمن أراضيها، بمعنى أن أميركا ليست جمعية خيرية أو صليبا أحمر، وليست إسعافا لإنقاذ المرضى أو المصابين من شعوب العالم.
مفارقة السياسة الأميركية في تناقضها وتبنيها لفكرة الاحتواء وعدم الانسياق وراء التصعيد في ردود الأفعال، إنما الانتظار واعتماد النفس الطويل والحوار والمباحثات لحصد النتائج أو الأهداف بالإقناع وتعطيل الخلافات الأيديولوجية المثيرة للإشكاليات والجدل لكسب الوقت وتوفير مناخ ثقة متبادلة بين الأطراف المختلفة، ينجح ذلك حتى مع الدول غير المنسجمة مع السياسة الأميركية على تنوع تاريخها وتقاليدها وجغرافيتها وأهميتها وكثافتها السكانية ومزاجها الاقتصادي والفكري، لكن من المستحيل أن تجد لسياسة الاحتواء والعقلانية مفردة التقاء مع مصنفات الإرهاب، فمجريات الأحداث تبيّن أن الإرهاب في نمو مستمر ووجد طريقا له إلى أوروبا بعد السيطرة على مدن كبيرة في سوريا والعراق، والسبب عدم المبالاة وإهمال متوالية الجرائم بأرقامها المتصاعدة ومستوى الخسائر في الأفراد والتجمعات المدنية.
ذاكرة السياسة الدولية ستحفظ للإدارة الأميركية وخلال دورتين انتخابيتين تحت قيادة أوباما، عدم قدرتها على تحسين واقع الأمن العالمي، أو إصلاح الإخفاقات الكبرى التي ارتكبت في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، وأخطرها حماقة احتلال العراق وانفلات العنف بعدها واستغلال الشعور العام بالكراهية للآخر الأميركي والغربي الذي يقطع بجيوشه الآلاف من الكيلومترات ليحتل دولة مستقلة وعضوا في الأمم المتحدة وتحت ذرائع كاذبة، بحسب الاعترافات اللاحقة.
وبدلا من تخفيف التوترات والحد منها، تسارعت الخطى في انهيار ليبيا وتدخل الناتو وارتدادات تسونامي المتغيرات الدموية في عالمنا العربي وإطلاق الشعوذات الإيرانية وكوابيسها الطائفية من سراديب المصالح الدولية، وبموجبها تم التفريط بالشعوب قتلا ونزوحا وتهجيرا وحصارا وتجويعا، بما استدعى تفويض روسيا بالتدخل المباشر في سوريا إلى جانب الحاكم المستبد الذي كان يحتضن معسكرات لتدريب عناصر القاعدة، كما كانت تفعل إيران بدعمها تدريبا وتجهيزا لوجيستيا وماديا لهذا التنظيم الذي تحول في ما بعد إلى داعش، وأصبح ورقة رابحة في تحويل مسار الحقائق وتشويه سمعة الثورة السورية بربطها بخيوط الإرهاب واستخدامها لضرب المعارضة المسلحة المعتدلة.
أميركا، ومعها قوات التحالف في العراق، مستمرة في القصف الجوي مع قوات برية محدودة لأغراض التدريب والدعم الاستخباراتي والإسناد الإداري والإشراف والتخطيط، وحديثها دائم عن الحرب طويلة الأمد مع الإرهاب، والوقائع تؤكد أنها تنأى بنفسها لتترك المنطقة في صراع المحاور المتقابلة، وواقع كهذا سيدفع في نهاية المطاف إلى مخاطر محسوبة وغير محسوبة، بوادرها في الاستعدادات واستعراض العديد من القوات الجاهزة والاحتياط ونوع الأسلحة وأرقام أعدادها وصنوفها، وهذا يصنف عسكريا ببداية التلويح بالحرب.
هل تسعى أميركا إلى دفع داعش للخروج من العراق إلى سوريا والتجمع هناك؟ ومن يضمن تنظيما بكل صفات داعش أن ينسحب من أماكن يسيطر عليها ويبدو أنه لا يتخلى عنها، ليظهر في مواقع أخرى ويتشظى في بلدان كثيرة، مستفيدا من لعبة “شيلني وأشيلك” على الأرض السورية التي تشهد كل صراعات الحروب الدامية والسياسات والمفاوضات المعوقة، بالنهايات المفتوحة لمآس أكبر.
العالم إلى الأسوأ، هكذا عرفناه، في حالة التدخل العسكري الأميركي الغاشم واحتلال دول الغير، أو في حالة عدم التدخل العسكري الحاسم عندما تكون الحاجة ماسة إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مستقبل مصير بلد مثل سوريا وشعبها التي ستتحول، وقد تحولت، إلى مركز لتصدير الثورة الإيرانية التي صدأت بضاعتها مبكرا لكنها وفت بوعدها في إنشاء مراكز صادرات في أسواقنا العربية، وهي نتيجة منطقية لمخاطر السلوك الأميركي في احتواء إيران بمحادثات طويلة الأمد تكللت بالاتفاق النووي الذي من نتائجه تخليها عن سعيها لامتلاك السلاح النووي مقابل رفع العقوبات عنها، والذي فسرته إيران، عمليا، بتصرفاتها الشائنة على الصعيد الدبلوماسي وتدخلاتها السافرة لإثارة الفتن الطائفية في المنطقة.
لن يشفع للإدارة الأميركية استعجال تنفيذ وعودها إلى ناخبيها في الأشهر الأخيرة من حكمها، مثل إغلاق معتقل غوانتانامو على الأرض الكوبية، لأننا نتيجة لتناقضات السياسية الأميركية نقع دائما ضحايا المنافسة الانتخابية بين مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
المثال الديمقراطي لأوباما وفر لنا معرفة معنى الهروب من بداية المأساة إلى نهايتها مباشرة على طريقة الجمهوري جورج بوش الابن، أو على مهل بالسرد الممل للتصريحات والمفاوضات والمباحثات المكوكية التي بلا إعداد أو إرادة حلول أو تدابير عملية أو فرض قرارات رادعة ليعرف الجميع أنه لا يمكن المضي في حماقات الحروب إلى الأبد، وإلا فإن البشرية ساعية إلى امتلاك الآلاف من المعتقلات مثل غوانتنامو وفي كل أرض.
ولا بد من تذكر أن بلدانا مثل سوريا والعراق ستحتاج إلى سنوات طويلة من التناسي لتغادر أحزانها وتداوي جراحها وتمضي في إعادة توطين العقل واحتواء الحياة الإنسانية بعيدا عن اليانكي الروسي وتناقضات الاحتواء الأميركي.