الحياة - استبق الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي محاسبة الدول الأعضاء ومعهم التاريخ العربي عبر إعلانه عدم التجديد لولاية ثانية على رأس الأمانة العامة للمنتظم الإقليمي، بما يشير إلى أنّ العهدة كانت واحدة من أكثر الحقبات السياسية فشلا وغيابا للنظام الرسمي العربي في وقت بات يسطّر فيه حاضر ومستقبل القوى الإٌقليمية الكبرى والإمبراطوريات القديمة المتجددة على الأرض العربية المثخنة بالدماء والمثقلة بالدمار. فشلت الجامعة العربية، ومعها الأمانة العامة، في ثلاثة تحديات على الأقل وهي تحويل المنتظم العربي إلى قوة مرجعية مركزية تتم عبرها تسوية المشاكل العربية العربية، والحيلولة دون تدويل القضايا الداخليّة، وتعزيز التعاون العربي المشترك.
خلال خمس سنوات فقط وهي فترة رئاسة الأمانة العامة العربية، تحوّلت ثلاث دول عربية من لاعبين إقليميين إلى ملاعب إقليمية وهي سوريا وليبيا وبدرجة أقل اليمن، وذلك بعد أن اختارت الجامعة العربية الغياب عوضا عن الحضور الإيجابي في هذه الملفّات الشائكة، الأمر الذي فتح المجال واسعا أمام منظمّات إقليمية غير عربية كالاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ودول كبرى مثل روسيا وأميركا، وقوى إقليمية مثل إيران وتركيا للانخراط في الجغرافيا العربية لإعادة رسم جغرافيا المصالح ولإعادة الروح في الزمن الإمبراطوري القديم.
والحقيقة التي لا بدّ من الوقوف أمامها كامنة في أنّ الأمانة العامّة للجامعة العربية اختارت خلال هذه الفترة أيضا الاصطفاف وراء الدوحة سواء في الملفّ السوريّ أو الليبي، دون اعتبار أنّ هذا الخيار سيضع المنتظم العربي، برمتّه، ضمن المحور القطري التركيّ المراهن على الإخوان المسلمين في العواصم العربيّة ودون تروّ مؤسساتي يمليه منطق ودور المنتظمات الإقليمية المتمثّل في تأطير الدول وقيادتها، لا اتباع العواصم المنفردة أو المنفلتة. فشل نبيل العربي هو جزء من فشل العرب في صناعة المشروع أو المحافظة عليه، وهو أيضا جزء من فشل متواصل مؤسساتيا وإقليميا ومحليّا.
بيد أنّ ثبات الجامعة العربية على فشلها المستمرّ عائد إلى استمرار العمل بذات الأعراف والتقاليد السياسية والدبلوماسية المهترئة، والتي على أساسها لا بدّ أن يكون الأمين العامّ مصريا ومقترحا من طرف القاهرة. من المقرّر والمسلّم بمصداقيته التاريخية والسياسية أنّ القاهرة تعدّ قاطرة العمل العربي المشترك والعمق الاستراتيجي للمنطقة العربية وهو ما يكرّسه تصريح الزعيم الراحل جمال عبدالناصر باستحالة دخول العرب في حرب ضدّ أيّ كان دون مصر، وباستحالة انخراطهم في سلام شامل مع أي كان دون دمشق.
ومع التأسيس على هذه المقدّمة، من الواجب الإقرار بأنّ احتكار القاهرة للمقر الرئيسي للجامعة العربيّة ولشخص الأمين العامّ أمر مجانب للتناوب التاريخي من حيث الثقل الاستراتيجي، فهناك عواصم عربية كثيرة تفوق اليوم مصر من حيث القوّة الناعمة، وهو أيضا أمر مخالف للثراء السياسيّ والدبلوماسي لتجارب الكثير من المسؤولين العرب.
والاكتفاء بالمدرسة الدبلوماسية المصرية، على عراقتها وأصالتها، يضع شخص الأمين العامّ في أو قرب دوائر اتخاذ القرار المركزيّ للقاهرة، ويمنع عن العمل المشترك مدارس دبلوماسيّة أخرى ومقاربات في إعادة الروح للدبلوماسية العربية في جغرافيّات قد تكون بعيدة عن العقل المصريّ بحكم كيانه وكينونته الفكرية والسياسيّة.
على الجامعة العربية أن تبحث في دروب الإحياء والتجديد والتثوير من حيث الشكل والمضمون على حدّ السواء، وأن يفتح الباب أمام العمل العربي الشبابيّ، وأن تطرح الملفات الاجتماعية والاقتصادية والتنمويّة المعيشية للفرد العربي الذي يعيش غريبا عن معنى المواطنة ومبنى الوطن.
لا جدوى من تغيير وزير الخارجية المصري الأسبق نبيل العربي بوزير الخارجية الأسبق أيضا أحمد أبوالغيط، أو بقائد الدبلوماسية الحالي سامح شكري أو حتّى إعادة عمرو موسى إلى منصب الأمين العام للجامعة العربيّة، فإن كانت القاهرة اليوم تشكو من قلّة التأثير الخارجيّ في ملفات شائكة مثل سدّ النهضة أو المشهد الليبي أو القضية الفلسطينية وبالتحديد قطاع غزّة، فإنّ استقدام وزير الخارجية على رأس الأمانة العامة العربية لن يخرج عن سياق الاستمرار في “التمصير” عوضا عن التحديث والتعصير.