لا نريد أن ندخلَ في الحكم على مضمون بيان وزراء الداخلية العرب الذي صدر إثر اجتماع تونس الأخير حول وصف حزب الله واتهامه بالإرهاب، فلذلك وجهات نظر في تفسير حاشية النصّ والاجتهاد في هوامشه. ولا نريد البحث في الدوافع السعودية – الخليجية التي تسعى، بعد إعلان دول مجلس التعاون الخليجي حزب الله منظمة إرهابية، إلى توسيع ذلك نحو الدوائر العربية والإسلامية. فللرياض وحلفائها من الأسباب والوقائع ما يحتم عليهما الدفاع عن أمنهما بالوسائل التي يرونها ناجعة، وبتحري الدعم من دوائر إقليمية ودولية.
على أن موقفَ الجزائر وتونس من فحوى البيان، عبّر عن مسألتين لافتتين. الأولى، أن العمل الجماعي العربي بات طقسا شكليا، حتى في اجتماع الممسكين بالأمن داخل البلدان العربية، وأن الإجماع الذي لطالما وسم المسائل الأمنية داخل النظام العربي، بات وجهة نظر تخضع لمحددات الدبلوماسية وشروط الحسابات الماركنتيلية. والثانية، أن الموقفَ من حزب الله وإيران بالنسبة إلى بعض الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية يأخذ طابعا “استشراقيا” يشوبه جهل أو تجاهل لتفاصيل تجاوزت لازمة المقاومة والشعارات الشعبوية الكبرى.
يخضعُ تفسير البلديْن الرافض لمسألة وصف حزب الله بالإرهابي، ليس لمسوّغ المعلومات والحقائق وتقارير السفارات، بل لتكرار رتيب لدور الحزب في المقاومة التي أدت إلى تحرير لبنان. بمعنى آخر، فإن فضيلة المقاومة في زمن ما ستغفر للحزب، في عرف الجزائر وتونس، أي خطايا في كل زمان ومكان. ولئن كان مفهوما أن نلقى سلوكا كهذا من قبل أحزاب وتيارات يحاصرها العفن النوستالجي تحريا لبقاء ووجود، فإن لجوء دول إلى هذا الأداء، يهدف أيضا، ربما، إلى استدعاء الأيديولوجيا المنهكة علّها تحوّل الأنظار عن معضلات الراهن النشطة.
نفهم جدا تحفّظ بغداد وبيروت عن مضمون بيان وزراء الداخلية العرب في تونس. العراق يتعرض لضغوط إيرانية باتت من عاديات هذا البلد منذ زوال النظام السابق، وعليه فإن التحفّظ (وليس الرفض) هو الحدّ الأدنى الذي يمكن لبغداد توفيره دفاعا عن حزب تابع (بإقرار أمينه العام) لإيران وللولي الفقيه فيها. أما تحفّظ لبنان فعائد إلى تعايش وزير الداخلية اللبناني الذي تواجد في تونس، في حكومة واحدة مع وزراء حزب الله في بيروت، ما يهددُ أي موقف مضاد وحدةَ تلك الحكومة واستمرارها، ناهيك عن أن تحفّظ الوزير نهاد المشنوق يتّسق أيضا مع خطابة في هذا الاجتماع المنتقد للأداء العربي في دعم لبنان ومنطق الدولة فيه. لكن أن تزايد الجزائر وتونس على تحفّظ البلدين، لا سيما لبنان المعني مباشرة بمزاج حزب الله، فهذا ما هو عصيّ على الفهم.
استقال العرب نهائيا من ورشة تحرير فلسطين، كما من ورشة تحرير لبنان. عام 1982 حين اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت عاصمته، لم يتحرك النظام العربي، كما لم تخرج أي مظاهرة شعبية في المنطقة العربية. المظاهرة الوحيدة التي خرجت في الشرق الأوسط كانت في إسرائيل بقيادة حركة “السلام الآن” للمطالبة بوقف الحرب في لبنان. مذاك باتت العواصم العربية، لا سيما تلك الراديكالية، تعتبر أي مقاومة، سواء في لبنان أو فلسطين، ضجيجا إعلاميا شبيها بالبرامج التلفزيونية الناجحة التي نسعد لوجودها ونفتقدها حين تزول.
لحزب الله ومقاومته في جنوب لبنان، كما للحزب وحربه في سوريا، أجندة إيرانية خالصة. طهران هي التي تحددُ توسيع حدودها نحو جنوب لبنان وتوسيع سطوتها نحو حدود الجولان في سوريا، كما بسط نفوذها في حمص وحلب، كما في بغداد والبصرة. وطهران هي التي تحدد وقف الحرب ضد إسرائيل وإشعالها ضد الشعب السوري، وهي التي تقرر متى توقف المواجهة مع “الشيطان الأكبر” وإعادة التموضع بجانبه لا بمواجهته. وفي كل تلك الورش كان حزب الله أداة أصيلة محورية في كل تلك المواقع، فيما المنابر، الشبيهة بموقفي الجزائر وتونس، تصفق بسذاجة لـ”المقاومة”.
لا يمكن لأطراف عربية نحبها ونجلها أن تزايد على موقف اللبنانيين، كل اللبنانيين، في احتضان حزب الله داخل النسيجين الاجتماعي والسياسي وتحت سقف الوطن حماية لفعلِه المقاوم حتى عام 2000، عام الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان احتضن اللبنانيون المقاومة حين كان هذا الاحتضان مكلفا في الدم والحجر والبشر والمال، فيما المنابر العربية كانت تتأمل عن بعد، وقد تصفق عن بعد.
ورغم أن حزب الله حوّل سلاحه في ما بعد إلى صدور شركائه في الوطن، ورغم أن الحزب متوّرط في جرائم اغتيال لخصومه (حسب المحكمة الخاصة التي أنشأتها الأمم المتحدة التي تنعم بعضويتها الجزائر وتونس)، ورغم أن الحزب يمنع انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، ورغم أن خيار الحزب إيراني لا عربي على حدّ قول أحد وزرائه، ورغم تورّط الحزب في دفع لبنانيين للحرب ضد السوريين في سوريا.. إلخ، فإن وزير الداخلية اللبناني الذي ينتمي إلى المعسكر الخصم لحزب الله تحفظ على مضمون بيان الداخلية العرب، كما أن سعد الحريري زعيم هذا المعسكر، ورغم قربه من الرياض، أعلن تمسكه بالحوار مع حزب الله.
لا مشكلة للبنانيين مع الحزب المقاوم حين كانت المقاومة مشروعة في عهد الاحتلال، وفي غياب جيش قوي جرى الحرص على إضعافه. المشكلة في لبنان مع حزب الله أن اللبنانيين يريدون دولة “عادية” كتلك في الجزائر وتونس تماما، حيث لا سلاح شرعيا إلا سلاح الجيش والقوى الأمنية، ولا ميليشيات تعمل ضمن دويلة في قلب الدولة.
خاضت الجزائر “عشرية سوداء” عمادها مواجهة بين منطق الدولة ومنطق الخروج عن الدولة. انطلقت شرارة تلك الحرب من مواجهة بين النظام السياسي الجزائري والجبهة الإسلامية للإنقاذ. في منطق الجزائر اليوم في الدفاع عن حزب الله أنه منتخب من قبل الشعب، بيد أن ذلك ينطبق أيضا على الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي انتخبت بتفوّق في الانتخابات البلدية (1990) ثم اكتسحت في الدورة الأولى للانتخابات البرلمانية (1992)، ما أدى إلى وقف العملية الانتخابية ودخول البلد في المواجهة الدموية المعروفة. بمعنى آخر أن الشرعية الانتخابية ليست محددا لإرهابية حزب ما من عدم إرهابيته، وفق المعيار الجزائري. لكن وبغضّ النظر عن ذلك، هل باتت الجزائر غير معنية بنشاطات الحزب داخل بلدان عربية، وتعتبر ذلك مشروعا؟ وهل باتت الجزائر غير معنية بما يسببه سلوك الحزب في سوريا واليمن، دون الكلام عن ميادين أخرى، من تفعيل وتخصيب للفتنة المذهبية في كل المنطقة، لا سيما أن أصواتا عالية صدحت مؤخرا محذرة من ذلك في الجزائر؟
تمثل النصيحة التي قدمها وزير الخارجية التونسي (استجابة للموقف الصادر عن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي باستنكار اعتبار حزب الله إرهابيا)، بيان إدانة للحزب وليس تبرئة له. فقد دعا خميس الجهيناوي حزب الله إلى الحرص “على ضرورة أن تتجنّب هذه الحركة كلّ ما من شأنه أن يهدّد استقرار المنطقة وأمنها الداخلي”.
واضح أن حكومة تونس لا تقبل بوجود ميليشيات ودويلة داخل الدولة التونسية، كما أنها لا تتسامح مع تونسيين يقاتلون في سوريا كما يبدو تسامحها مع لبنانيين ينتمون لحزب الله يقاتلون أيضا في سوريا. وواضح أن الخارجين عن منطق الدولة والناشطين في جبل الشعانبي يُعامَلون من قبل الحكومة التونسية بصفتهم إرهابيين. وقد يُقال إن أمر حزب الله يختلف عن أمر الجماعات، وفي ذلك وجهة نظر، ذلك أن الحزب والجماعات يدافعان عما يرانه شرعيا عادلا، فيما منطق الدولة يرى خلاف ذلك.
لكن الأدهى أن الحكومة التونسية خضعت لضغوط من قبل الأحزاب والتيارات اليسارية والقومية، التي للمفارقة الكبرى، ترى في حكم دمشق وطنية صامدة ضد “مؤامرة إمبريالية صهيونية” يساهم حزب الله في صدّها.
وقد نتساءل عن سرّ الانجذاب في تونس إلى ديكتاتورية بشار الأسد بعد أن تخلص التونسيون بقيادة، ربما، من قبل هذه الأحزاب والقوى والتيارات من دكتاتورية زين العابدين بن علي. فهل يمكن مقارنة الدكتاتوريتين؟ هل دمرت دكتاتورية بن علي مدنا وسلطت شبيحة يستبيحون البلد ويحولونه إلى مقبرة جماعية في سبيل حماية العائلة الحاكمة؟ يبدو أنه فعل ذلك، وربما فعل أكثر وأكثر من ذلك، حتى بدت دكتاتورية الأسد حنانا ورأفة بالنسبة إلى المدافعين عن نظام بن علي في تونس. ومع ذلك لن نذهب مذهب الخبثاء الذين يرون في موقف تونس، لا سيما الصادر عن عتاة اليسار والعروبة، استثمارا إيرانيا أينعت ثماره.
على أي حال تفصح التحولات الدولية عن إرهاصات نظام دولي جديد. وتفصح اليوميات العربية عن تشكّل نظام عربي جديد. وفيما ذهب إليه أحد الصحافيين الجزائريين من مطالبته بانسحاب بلاده من الجامعة العربية استنكارا لـ”الهيمنة السعودية” عليها، ما قد يؤشر إلى ضرورة ولادة نظام مصالح عربي جديد يستطيع، في الحدّ الأدنى، التفريق بين منطقيْ الدولة والعبث، وبين ما هو مقاومة شريفة وإرها