العرب - سيُكتب الكثير في السعي إلى الاجتهاد في تفسير موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقراره بسحب “الجزء الأكبر” من قواته من سوريا. وسيسعى المحللون للاستعانة بعلوم السياسة وبيانات الاقتصاد، وربما بعلم النفس، لتحرّي رواية حقيقية تقف وراء قرار سيد الكرملين في قلب الطاولة على نحو مسرحيّ استدعى انبهار الجمهور العريض. حتى أن تأملا موضوعيا قد يفضي إلى التسليم بأن لا أحد يعرف ماذا دار في خلد الرئيس الروسي، تاركا للأقلام في العالم أن تبرع في إنتاج الأسباب والمسوغات.
لم ينسحب بوتين من سوريا، بل أعاد تموضعه الاستراتيجي، على النحو الذي أحاله، بمهارة، حاجة للتسوية السورية، بعد أن استباح الحلفاء والخصوم هجاء استراتيجياته في سوريا. يصطادُ الرجل بحجر واحد مجموعة من الطرائد، في مناورة تثبّته رقما أساسيا في المعادلة السورية، ومنها في المعادلات الدولية الأخرى.
أبلغت موسكو إسرائيل عزمها التدخل العسكري في سوريا، ونسّقت مع تل أبيب تفاصيل المسموح والمحظور، فيما لم يعلم الإسرائيليون بأمر الانسحاب الروسي إلا من خلال الإعلام. بدا واضحا أن موسكو تقصّدت الإعلان قبل هنيهة من توقيت كافة النشرات الإخبارية الرئيسية في العالم. أراد بوتين، بسادية مفرطة، التمتع بتأمل ما فعلته مفاجأته في المشهد الإعلامي الدولي، بدا أنه هاتف الأسد موبّخا صغيره، وهاتف أوباما مطالبا كبيره بدفع فواتير المهمة التي نفذها.
ذهب بوتين إلى سوريا بعد ساعات من اجتماعه بالرئيس الأميركي على هامش قمة العالم في نيويورك. كان واضحا أن ثقة الرئيس الروسي، لا سيما في مشهد استدعائه للرئيس السوري إلى موسكو، لا تستند فقط على كاريزما وطباع فقط، بل على وكالة دولية معطوفة على فترة سماح مُنحت لموسكو لترتيب الوضع السوري على هواها. وكان واضحا أن المجتمع الدولي أظهر جدية لافتة في دعم الوكالة الروسية، فتوّلت الرياض إعداد المعارضة، وتولت عمّان إعداد قوائم بالفصائل المعتبرة إرهابية، فيما عملت العواصم الكبرى على ترتيب قرار في مجلس الأمن يرفد الجهد الروسي ويرعاه.
في القول، في موسكو، إن روسيا نفّذت المهمة التي أعلنت عنها في بداية عملياتها في سوريا، لهو تضليل على منوال ما هو سائد هذه الأيام في كل عواصم العالم في مقاربة كوارث هذا العصر. أعاد بوتين عدّته وعديده دون أن يقضي على الإرهاب، ودون أن يردّٓ عن روسيا أخطار التطرف الإسلامي، ودون أن يصاب داعش بالهزيمة المنتظرة. بدا واضحا أن الجهد الأميركي ضد داعش في العراق أكثر جدية ونجاعة من ادعاءات الروس في سوريا.
وفي القول إن بوتين قد حقق ما يريد، ففي ذلك وجاهة لا لبس فيها. أعادت النيران الروسية صلابة عود النظام في دمشق بعد أن كان على وشك الانهيار، وأعادت قوات دمشق، بمواكبة جوية روسية، وحسب الإحصاءات الروسية أيضا، السيطرة على ما يقارب الـ10 آلاف كيلومتر مربع وعلى أكثر من 400 مدينة وقرية، كان النظام قد فقدها. وأعادت موسكو تنشيط عملية دبلوماسية أنتجت تفاهمات ميونيخ وما بعدها، وراحت، وفق إيقاعها العسكري، تفرض مع واشنطن وقفا عجائبيا لإطلاق النار.
استطاع بوتين أن ينتزع اعترافا دوليا بأنه بات يقود دولة عظمى في مناوراتها وأهدافها ووسائل حركتها، لدرجة أن الأوروبيين، الذين فرضوا العقوبات الأوكرانية على موسكو، راحوا يتحرّون لدى بوتين ترياقا لمأساة اللجوء السوري إلى أحضانهم. باتت أجندة بوتين طموحة تتّسق مع مصالح روسيا الاستراتيجية، بغضّ النظر عمن يريد أن يقتات في المنطقة من الهمّة الروسية في سبيل تحقيق أجندته المحلية. بدا أن جسارة الطرف الروسي قد أقلقت الحليف في دمشق كما الحليف في طهران، لدرجة أن يلتقي الإيرانيون والأتراك على رفض ظلال ثقيلة يرخيها “الدب” في حقولهما.
|
ولأن روسيا دولة عظمى في جهدها وخطابها وحراك عسكرها ومستقبل اقتصادها، تطوّرت علاقة موسكو مع الرياض على نحو لا يتّسق مع تناقض وتنافر موقف البلدين في الميدان السوري. اكتفى الطرفان بإعلان خلافهما واستمرا في تعبيد خارطة طريق نحو علاقات نوعية، وربما، استراتيجية بين البلدين، حتى أن قرار بوتين الأخير تواكب مع إشادة روسية بالدور السعودي لدفع المعارضة السورية نحو جنيف، كما الثناء على أداء تلك المعارضة وانفتاحها، فيما اعتبر ذلك غمزا مباشرا من قناة وفد النظام.
انسحب بوتين من سوريا بعد أيام على بثّ خبر صادر عن وزارة الدفاع الروسية، يعلن عن سقوط طائرة عسكرية روسية بصاروخ أرض جو أطلقه الخصوم. ربما تناهى إلى سمع الرجل أن “ستينغر”، ذلك الصاروخ الذي هزم جيش الاتحاد السوفييتي في أفغانستان قد بدأ يجول في الميادين السورية، بعد أن كشفت أجهزة المخابرات الغربية عن تجواله متسللا من مستودعات القذافي باتجاه دول شمال أفريقيا. بمعنى آخر، يشعر الرجل أنه حقق ما يريد من دون خسائر تذكر، مقارنة بحجم العمليات العسكرية (4 قتلى)، وأن الحكمة تقتضي حصد الأرباح قبل أن تتحوّل إلى كابوس شبيه بذلك الأفغاني، فأعلن عن “انسحاب جزئي” من سوريا وفق نفس صيغة “الانسحاب الجزئي” الذي أعلن من خلاله الاتحاد السوفياتي “إخلاءه” للأراضي الأفغانية.
لم يستطع غرور الرئيس الروسي أن يدفع عنه حقائق الأرقام. عام 2015 تراجع الاقتصاد الروسي بنسبة 3.7 بالمئة، فيما تقديرات هذا العام تستشرف الاستمرار السلبي في معدلات النمو. وصلت معدلات التضخم إلى 15.4 بالمئة، وهو ما أدى إلى اقتطاع 5 بالمئة من ميزانية وزارة الدفاع لهذا العام. أعلن بوتين، بزهو، أن العمليات العسكرية لا تكلّف الخزينة الروسية، بل هي جزء من ميزانية التدريب في الجيش الروسي. بيد أن صحف موسكو (أر بي كي) تكشف أن كلفة الجهد العسكري الروسي في روسيا تصل إلى 2.5 مليون دولار يوميا، بما لا تحتمله ميزانية التدريب المزعومة، ولا حتى اقتصاد روسيا الكلي الذي فقد رشاقته منذ تدهور أسعار النفط في العالم.
على أن سلوك فلاديمير بوتين في الذهاب، وأكثر في الإياب، لا يشبه سلوك الدول الكبرى في قراراتها الأولى. لا منطق في قرار بوتين النزق يتّسق مع الحنكة الدبلوماسية الدؤوبة التي يمارسها وزير خارجيته سيرجي لافروف، ولا منطق يتّسق مع اقتراح موسكو للفيدرالية حلا لسوريا قبل أيام، ولا منطق يتّسق مع “عجائبية” الهدنة في سوريا و”جدية” المفاوضات في جنيف. أيعقل أن زعيم الكرملين يمارس حرداً ضد دمشق التي حرّمت الكلام في الرئاسيات من دمشق (وليد المعلم)، وحرّمت الكلام في الهيئة الانتقالية في جنيف (بشار الجعفري)؟ ثم هل ما يزال لدمشق أن تقرر ما لم تُستشر فيه، أولم تكن رسائل فيتالي تشوركين، سفير موسكو في الأمم المتحدة، كافية لردع الحاكم في دمشق؟
من نفاق هذا العالم الإجماع الذي صدر تعليقا على قرار الانسحاب الروسي في اعتبار ذلك إيجابيا. حتى دمشق وطهران اللتان استبشرتا نصرا مبينا من خلال التدخل العسكري الروسي، اعتبرتا الأمر قرارا جيدا، موحيتين بأنه تمّ بالتنسيق الكامل معهما. الأوروبيون والأميركيون أشادوا بقرار موسكو، رغم اعترافهم بأنهم فوجئوا به، بما يشي ألا خطة “ب” لديهم. في ذلك فإن المراقبين يتساءلون عن مآلات العملية التفاوضية، كما عن مآلات الهدنة التي، ولئن اعتبرت “عجائبية” تحت وهج النيران الروسية الكامنة، فإن استمرارها بغياب ذلك الوهج، وفق ما يفرضه منطق الانسحاب الجزئي، سيحتاج إلى معجزات ربانية.
يمكن اعتبار أن روسيا أحدثت أمرا واقعا ميدانيا ودبلوماسيا بمواكبة دولية والتزام إقليمي لم يخترق التوافقات، وألا شيء يوحي بأنه من المسموح العبث بها. بمعنى آخر، لن يُحدث القرار الروسي فراغا يستدرج الطامحين لملئه. وربما في دعوة تركيا فصائل المعارضة المسلحة إلى التوحدة، ما يلبي حاجة معنوية تركية في موسم التوتر مع موسكو ورواج الميول الانفصالية للأكراد في سوريا، أكثر من كونه عزما على قلب الطاولة في سوريا.
الصحافة في روسيا تتحدث عن “انتصار” ولم يكن متوقعا التحدث بغير ذلك. انتصار أن بوتين تجنّب الغرق في المستنقع السوري (كومرسانت)، وانتصار لأن الحملة كانت تهدف أساسا إلى التقارب مع الغرب وإطلاق عملية سلام (فيدوموستي)، وانتصار لأن الانسحاب يعني أن الجيش السوري بات قادرا على مواجهة داعش (ايزفستيا)، وانتصار لأن موسكو لم تكن تسعى لإنقاذ نظام الأسد بل الخروج من العزلة الدولية (إذاعة بزنس أف أم). وباستطاعة الكيميائيين الروس أن يذهبوا أكثر فأكثر في استنباط معادلات الانتصار لبيعها للرأي العام الداخلي مبررا لحملة بوتين في سوريا.
يحتاج النظام السوري للدور الروسي الكامل صيانة لما حققه ميدانيا برعاية موسكو، ودفاعا عما كاد يسقط حين كان الدعم يأتي من إيران وميليشياتها الشيعية. توقفت دمشق عن إرسال مبعوثيها لطهران منذ أن أصبح القرار السوري روسيا، لكنها سارعت إلى إرسال نائب وزير خارجيتها فيصل المقداد إلى العاصمة الإيرانية تحريا لرعاية تعوّضها رعاية موسكو بالطبعة التي فرضتها النيران الروسية. تحتاج أوروبا والولايات المتحدة للدور الروسي لوقف تدفّق اللاجئين إلى قلب العالم الغربي، مع ما أحدثه ذلك من زلازل سياسية واجتماعية واقتصادية. تحتاج الدول الإقليمية إلى الدور الروسي الذي خبرته واعتادت عليه وامتهنت التموضع حوله، رغم تناقضها معه. وتحتاج إسرائيل إلى بقاء إدارة الصراع السوري في اليد الروسية التي أظهرت رعاية لمصالح تل أبيب وتفهما لهواجس الأمن في إسرائيل.
وفق تلك الحاجة، وبناء على الورقة المفاجئة التي أخرجها على طاولة اللعب، ينتظر بوتين حصد ما استثمره وما أنجزه. فالرجل مغامر عتيق وليس مقامرا أهوج. وكما راقب بوتين العالم بسادية بعد إعلانه المفاجئ، فإنه سيراقب مدى تطابق حسابات البيدر مع حسابات الحقل منذ أن أمر طائراته ببدء عملياتها في سوريا قبل أشهر.