الحياة - يرتكز «حزب الله» في ديناميته على محورية التبعية للوليّ الفقيه في إيران. وما برح الأمين العام للحزب يردد في كل مناسبة تحتاج لذلك أنه وحزبه جندٌ لدى الولي الفقيه، فكيف سيكون عليه الحزب إذا ما راجع الإيرانيون أنفسهم، بعد الاتفاق النووي، ذلك الموقع وذلك المفهوم وأطاحوا بهما من دستورهم ومن ثوابتهم الفقهية؟ وما الموقع الشرعي الذي يبقى للحزب في حال رفع ذلك السقف الذي ابتكره الخميني، وباتت ولاية الفقيه وجهة نظر لا تغادر كتب المجتهدين، وكثيراً ما لا تعترف بها مراجع الشيعة في العالم.
سيلاحظ «حزب الله» بسهولة أنه كان حاجة في مواسم المدّ التي عملت عليها الجمهورية الإسلامية للوصول إلى أعلى درجات الترقي. لكنه سيلاحظ أيضاً أنه لم يكن يوماً حالة مستقلة استقطبها الحاكم في طهران، بل عضواً حيوياً تابعاً تمت صناعته وتغذيته وتقويته للعمل في الأطراف وفق أجندة المركز في إيران. بمعنى آخر، وبغضّ النظر عما حققه محلياً وما أنجزه داخل الطائفة الشيعية في لبنان، فإن تقادمَ مهماته وسقوطَ الأهداف الذي أُنتج من أجله يُفقد الحزب المعنى والدور والشرعية والبقاء.
لا بد أن المخلصين داخل «حزب الله» والمولّهين بفكرة إقامة «جمهورية إسلامية في لبنان تابعة للجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الوليّ الفقيه» (وفق خطاب السيّد حسن نصر الله الشهير)، قد استنتجوا في السنوات القليلة الماضية أنهم باتوا عسكر المرشد في مزاجه اليمني أو العراقي أو السوري أو اللبناني، وأن الحزب أضاع موقعه في حركة التاريخ، بحيث بات أفق الحزب تحدده معارك صعدة والأنبار وحمص، وأن تراث الحسين داخل الحزب محكوم بما يقرره قادة الحرس الثوري، وأن تلك التبعية الصماء قد تحمل يوماً جنود الحزب لمواجهة أعداء الثورة الإسلامية في إيران نفسها.
لم يناقش «حزب الله» تورّط إيران في دعم الحوثيين في اليمن وراح من دون نقاش يشارك في الجهد الذي ينال من أمن السعودية هناك. لم ينف الأمين العام قتال الحزب داخل صفوف «الحشد الشعبي» في العراق، كما جاهر باستغراقه في المستنقع السوري دفاعاً عن نظام الأسد، الحليف لطهران، ضد المعارضة السورية، لا فرق في الأوصاف التي يلصقها الحزب بها. وإذا ما أضفنا جهود الحزب في العالم بعامة ولدى الشيعة في الخليج بخاصة، فإن جردة بسيطة ستقودُ إلى استنتاج أن الحزب بات، وربما لم يكن إلا ذلك، جهازاً منفّذاً من أجهزة الأمن والدفاع الإيراني.
لكن الأدهى في حالة «حزب الله» أنه ليس جهازاً إيرانياً داخلياً تجري مواراته داخل مؤسسات الدولة، وتجري حماية منتسبيه إذا ما استدعت الضغوط أو تبدلت القواعد. ذلك أنه امتداد من السهل التخلّص منه حين يصبح وجوده عالةً تسقطُ لزوميتها. لم يفهم الحزب كيف تسقط المدن في اليمن ويتوجّه الحوثيون للتفاوض مع السعوديين بعد أن نَهَرَ بعضهم إيران عن التدخل في شؤون بلدهم. ولم يفهم الحزب كيف تتخلى إيران عن سطّوتها في سورية وتتنازل لروسيا عما استثمرت فيه منذ عقود. ولم يفهم الحزب كيف تقود واشنطن معارك الأنبار وتندثر آثار قاسم سليماني في العراق. ولم يفهم الحزب كيف يَعِدُ الرئيس الإيراني بتوجه وفد سياسي إيراني إلى السعودية، فيما السعودية وجيرانها الخليجيون يشنون هجوماً غير مسبوق ضد الحزب وبيئته في لبنان ودول الخليج.
يرتبك الحزب في الإدلاء بدلو مقنع لتفسير تموضعه الراهن في المشهد الإقليمي العام. يعلم الحزب أن دوره يقتصر على القيام بأدوار ملتبسة داخل الكواليس الخلفية المعتمة، فيما يقوم الرئيس روحاني ووزير خارجيته والفريق الفائز في الانتخابات الأخيرة بتقديم إيران الجديدة التي لا شك ستمقت ما هو ملتبس ومعتم. ينسحب الارتباك على ساحته اللبنانية الداخلية بحيث يمعن في منع انتخاب أحد حليفيه رئيساً للجمهورية، ولا يتفاعل مع عودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان، ويشغل نفسه بالانحشار داخل حكومة مقعدة تلهث من أجل حلّ أزمة نفايات باتت فضيحة تاريخية لا سابق لها في لبنان.
يتساءل «حزب الله» عن منطق انفتاح العالم أجمع على إيران ما بعد الاتفاق النووي وانغلاق العالم أجمع على الحزب بعد الاتفاق نفسه. يشعر الحزب بحجم الضغوط التي تُمارس عليه منذ أن أضحت العقوبات الأميركية تشلُّ أذرعته المالية وتحرجه لدى النظام المصرفي اللبناني، ومنذ أن باتت الوفود اللبنانية تتالى على العاصمة الأميركية تبرؤاً من إثم التورط مع الحزب. وتداهم التدابير الخليجية الحزب على حين غرة فلا يردُّها إلا بعدّة عتيقة لا يخرج عنها إلا شتائم متقادمة انتهت صلاحيتها.
بانتظار أن يستوعب الحزب زلزال الاتفاق النووي واستعادة الكبار في العالم لشؤون الصغار في العالم، وبانتظار أن يدرك الحزب مآلات موقعه على قطعة الشطرنج الكونية، وبانتظار أن يُوحى له أن يُخرِج جنده من الأزقّة السورية، وبانتظار أن يصلّه ما يُفصح عن مزاج إيران اليوم في إدارة نفوذها اللبناني، سيستعيد الحزب وسيّده بضاعة قديمة ويعيد تصويب خطابه نحو إسرائيل والصهيونية والإحتلال، وينهل من مخزون قديم قد لا يجد كثيراً من الزبائن له في زمن كوارث هذه الأيام.