العرب - يقلق لبنان من أزمة صحافته وما يمثّله أمر ذلك من نكبة لظاهرة أسست لسمعة التميّز داخل العالم العربي في عقود ما بعد الاستقلال. لكن ذلك القلق يأتي منطقيا عاديا داخل المشهد الكبير للبلد، بحيث أن تلك الأزمة على جسارتها، تكمل عاديات الانهيار اليومي في كافة المجالات والقطاعات، كما تعكس استقالة الدولة تاريخيا في حماية القطاع الخاص وردّ الضير عنه، وتعفن الديناميات التي حافظت على نشاط الحركة الصحافية بالرغم من الأزمات المفصلية الكبرى التي عصفت بالبلاد في تاريخه الحديث.
ولئن تعتبر الصحافة في لبنان مدرسة خاصة يشتهر بريقها منذ بدايات القرن الماضي، إلا أن فرادتها تكمن أيضا في لزوميتها في إطار تشكّل النظام العربي ولوازم إدارة الصراعات التي نشأت حوله. بمعنى آخر، فإن نجاح الصحافة اللبنانية، لا يعود إلى مواهب وخبرات رائدة فقط، بل إلى غياب صحافة حديثة رشيقة في البيئة الإقليمية المحيطة بلبنان. بمعنى آخر استفاد لبنان من كونه أول من أدخل الطباعة في المنطقة، كما استفاد من ارتباط نشأته بعواصم القرار الكبرى في العالم، كما من دوره وموقعه في تجسير العلاقة بين غرب وشرق.
لعبت الصحافة اللبنانية دورا تاريخيا لا نقاش فيه في تشكّل التركيبة السياسية اللبنانية، لا سيما بعد الاستقلال. ولم يكن دور الصحافة رقيبا على السلطة في البلد، بل مشاركا في إنتاجها ولاعبا أساسيا داخل شروط بقائها. يروي الصحافي اللبناني الراحل غسان تويني، أن مداولات تشكيل الحكومات كانت تجري في حقب معينة داخل مكاتب جريدة النهار التي كان يرأس تحريرها. ومن هذه الدينامية التي وسمت المؤسسات الصحافية، خرجت وجوه وأسماء كبيرة إلى عالم السياسة والسلطة والحكم بعد أن اكتسبت خبرة ومراسا داخل عالم الصحافة في لبنان.
تعايش نظام الحكم في لبنان، في تعدد وجوهه وميوله، مع الخصوصية التي نمت داخلها الصحافة اللبنانية. عزز هذا الواقع من هامش الحرية الذي تمتعت به مقارنة بغيابها في كافة الدول العربية الأخرى. تحاشت التركيبة السياسية اللبنانية الاصطدام بالصحافة اللبنانية وجعلتها شريكة في إدارة البلد، من خلال استخدامها منبرا للجدل المتبادل بين المشارب والمصالح وأولي الأمر.
|
ولئن ارتفعت الأصوات تندد بالمآلات الدراماتيكية التي أصابت القطاع الصحافي اللبناني هذه الأيام، إلا أن أمر الصحافة الورقية في تحوّل على مستوى العالم أجمع، بحيث أن اختفاء الورقي في العالم لا يمكن إلا أن يصيب الورقي اللبناني بغضّ النظر عن الظروف الذاتية الخاصة التي أصابت البلد والمهنة والقطاع. لا تعمل الصحافة اللبنانية، ولم تعمل يوما، وفق شروط السوق بالمعنى المالي التجاري، بل وفق وُفُورات يؤمّنها المال السياسي المحلي وذلك الوارد من ما وراء الحدود، ذلك أن حجم السوق المحلي، بيعا وإعلانا، لا يتيح رخاء وديمومة للمؤسسات الصحافية في البلد.
أزمة الصحافة اللبنانية تأتي من حقيقة فقدان لبنان، ربما بشكل نهائي، موقعه المصدّر للمعلومة، على ما نجح في احتكاره لعقود. يروي الصحافي اللبناني سليم نصّار أنه في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كانت الصحافة اللبنانية تستقي أخبارها، لا سيما المتعلّقة بسياسات القاهرة، من الصحافة المصرية. ومع ذلك فإن الصحافة المصرية كانت تعيد نشر نفس الأخبار لكن بصفتها صادرة عن الصحافة اللبنانية. بيد أن العصر الراهن بما يوفّره من تقنيات معولمة أتاح شفافية فورية وشاملة في انتقال الخبر على مستوى العالم أجمع، بحيث بات الاستغناء عن “المصدر اللبناني” منطقيا حتميا.
من ناحية أخرى ازدهرت في العالم العربي، الخليجي خصوصا، صحافة حديثة، اعتمدت في بدايات إنشائها على المهارات اللبنانية، لكنها باتت اليوم، في قدراتها وإمكاناتها، مهيمنة على سوق الصحافة العام، مستغنية بذلك عن خدمات الصحافة اللبنانية. لم يعد النظام العربي يحتاج إلى توجيه رسائله من خلال صندوق البريد اللبناني الذي كانت الصحافة اللبنانية تمثّله، فقد باتت الرسائل تُوجّه مباشرة من مصدرها الأصل إلى مقاصدها.
وفي حفلة النحيب الجارية حاليا رثاء لصحافة البلد، مبالغة في إضفاء طهرانية على دور ووظيفة الصحافة اللبنانية على مدى العقود الماضية. تحوّلت المؤسسات اللبنانية في حقب الازدهار إلى مؤسسات اقتصادية كبرى تعظّم حجم “البزنس” من خلال الغرف من غلال التصادم الداخلي السياسي والدموي، بحيث تحوّلت صحافة لبنان إلى أبواق تنطق باسم السلطان (أي سلطان) وكرمه. ينسحب ذلك على العلاقة المالية التي ارتبطت بها الصحافة اللبنانية بمصادر التمويل الخارجي، وخصوصا العربي، وبالتـالي بدت مـن الأبجـديات الخبيثة التي وارى اللبنانيون عارها، واعتبروه وجها من وجوه “الشطارة” اللبنانية.
ومن المفارقات الكبرى، أن الليبرالية التي طبعت الصحافة اللبنانية تواكبت مع عادية ولائها السياسي للمموّل. توزّعت الصحافة، بحسب العهود، بين نفوذ المراكز الأساسية الحاكمة في العالم العربي، ناهيك عن ارتباط بعضها بعواصم غربية كبرى. كان لمصر الناصرية صحافتها ولسوريا والعراق وليبيا والخليج صحافتها، حتى أن رئيس الجمهورية الراحل شارل الحلو توجّه يوما إلى رؤساء تحرير الصحف اللبنانية مرحّبا “أهلا بكم إلى بلدكم الثاني لبنان”. وربما يجب الإقرار بأن جميع الأنظمة السياسية العربية دون استثناء، كانت تعتبر أن صوتها اللبناني هو سمة قوة وتفوّق في مقارعة بعضها البعض كما في مقارعة الخارج، وربما أن تلك “اللبننة” قادت الناصرية والصدّامية والقذّافية… إلخ، إلى رعاية تشكّلات وفصائل سياسية وعسكرية تابعة لها في لبنان.
أقفلت خزائن ليبيا والعراق المروّجة لصحافتهما في لبنان منذ سقوط نظاميْ القذافي وصدام حسين، واقتصرت أعمال التمويل على ذلك الوارد من السعودية (وبعض دول الخليج) وإيران. استفادت الصحافة اللبنانية في السنوات الأخيرة من “بزنس” الصراع بين الرياض وطهران، بحيث أن مصائبه تحوّلت إلى فوائد داخل ذلك القطاع، فانتفخت خزائن الصحف المتوفّرة، وجرى إنشاء أو إعادة الروح إلى عناوين صحافية نائمة.
ولا ريب أن الإعلان مؤخرا عن أزمات مالية تعاني منها جرائد النهار والسفير واللواء، وبغضّ النظر عما إذا كان المُعلن يعبّر عن نزاع ما قبل الموت، أو هو مناورة لاستدراج الممولين (على ما يشي بإنقاذ “السفير” في آخر لحظة)، فإن العلّة تقلق الآلاف من العاملين في قطاع الصحافة، وتطرح ألف سؤال حول مستقبل المهنة ومستوى الاحترافية الذي كان مشهودا لها وبنيت وفقها معايير ما عُرف بـ”المدرسة اللبنانية” في هذا المضمار.
تدفع الصحافة اللبنانية اليوم ثمن الفوضى التي أحدثها الربيع العربي في المنطقة. وتعكس الأزمة الحالية واقعا لم يجرؤ القطاع الصحافي اللبناني على الاعتراف به على مدى العقود الماضية، من حيث أن رواج الصحافة اللبنانية لا يعود إلى استقلالها، بل على العكس، إلى تبعيتها الكاملة لعواصم المال والقرار العربيين، وأن انقلاب المشهد الذي أحدثه “الربيع” حرم بيروت من رعاة “المدرسة” وعرابيها.
ومع ذلك وجب عدم إغفال أن الجانب المالي للقطاع في بعده “الماركنتيلي”، واكبه سقوط ضحايا من أبناء المهنة ممن دفعوا حياتهم ثمنا لمواقف ظاهرها تعبير عن قناعات، وباطنها تعبير عن مناكفات الأنظمة العربية في ما بينها. فإذا ما كانت العواصم العربية تتنافس على تبادل الرسائل من بيروت، فإن عمليات الاغتيالات ومحاولات الاغتيال التي طالت وجوها صحافية لبنانية كبرى، عكست جانبا من الرسائل السوداء لتلك العواصم التي كان لا بد أن تمر عبر بيروت.