العرب - الذين يصرون على أن قوة الحق ستهزم حق القوة، إنما يكررون أسطوانة قديمة تدور منذ قرون دون انقطاع: كان الشاعر العربي يرى أن الكلمة (مع وجود استثناء هنا أو هناك) أشد مضاء من السيف. وكان فليتشر سالون يرى أن أغاني الشعب أشد أهمية من قوانينه.
وكان شيلي يمجد الشعراء ويؤكد أنهم مشرعو الإنسانية غير المعترف بهم. ودفع المتنبي حياته ثمناً للكلمة عندما أراد أن يضعها من حيث الأهمية موضع الفعل الملزم نفسه. غير أن كل الخطب الرنانة التي ألقاها ديموستين لم تفلح في إنقاذ اليونان من الانهيار. كما لم تفلح الخطب العظيمة التي ألقاها شيشرون في تأخير سقوط الجمهورية الرومانية. ولم تستطع قصيدة أبي البقاء الرندي “لكلّ شيء إذا ما تم نقصان..” أن تفعل شيئاً في محنة الأندلس.. تماماً كما أخفقت أشعار ملتون في الحفاظ على وحدة إنكلترا. وبالمقابل كان هناك فولتير وبيرك اللذان صار ينظر إليهما على أنهما يمثلان سلطة أخلاقية عظيمة بمعنى من المعاني.
وقد خلّف عقد روسو الاجتماعي علامة لا تمحى وأصبح معلماً بارزاً في تاريخ أوروبا. وكان لرأس المال لماركس أثره الذي تجاوز نظريات الاقتصاد. كما لعب كتاب الإدراك العام لتوماس بين دوره المتميز في أميركا. ولكن المرء يتساءل عما إذا كان تأثير الكلمة يعود فقط إلى ما تحمله من أفكار وليس إلى الأسلوب الذي قيلت به هذه الأفكار. فصل المقال هو أن الكتّاب الكبار صناع أساطير واقعية ربما تجاوزت في واقعيتها الافتراضية الواقع نفسه. ألسنا نعتقد بوجود شخصية دون كيشوت في كل مكان وزمان؟ أليست شخصية يوليوس قيصر كما رسمها شكسبير أشد صدقاً من شخصية يوليوس قيصر الحقيقية؟
وماذا عن هاملت وعطيل وشايلوك.. كل هذه الشخصيات تبدو وكأنها ذات وجود فعلي. وهذا ليس غريباً فمعظم أعمال شكسبير اعتمدت على أحداث موثقة في مصادر تاريخية معروفة. وتكمن المفارقة في أن شخصية شكسبير المؤلف نفسه كانت عرضة للشكوك وهناك نظريات كثيرة في هذا الموضوع أطلقت في مستهل القرن السابع عشر. وقبل ذلك لم يعرف الأدب الإنكليزي مثل هذه الشكوك. وأما الذين ترددت أسماؤهم كمؤلفين محتملين لمعظم مسرحيات شكسبير فيمكن أن نذكر منهم الفيلسوف فرانسيس بيكون، والمسرحي كريستوفر مارلو. وهناك أسماء أخرى لكتّاب أقل شهرة لا يغير ذكرها أو إغفالها من طبيعة الاتهام.
والمهم فيما يتعلق بالمؤشرات التي أوردتها في مستهل هذه الكلمات أن الهزيمة لا تصنع أدباً. والتاريخ يقدم أكثر من مثال على أن الأدب العظيم يظهر في فترات الازدهار التي تعقب إحراز انتصار حاسم. وقد عاش شكسبير في عصر بداية ازدهار.
في عام 1588 أرسل فيليب ملك أسبانيا أسطول الأرمادا الأسباني الذي كان يضم 130 قطعة بحرية تحمل ما ينيف على عشرين ألف جندي. وقبل أن يقترب أسطول الأرمادا من شواطئ إنكلترا ليشن الهجوم المرسوم له، تصدى له الأسطول الإنكليزي وأغرقه. وبذلك انهار عصر السيطرة الأسبانية على البحار.. وبدأ نجم إنكلترا بالصعود. وقد عاش شكسبير في فترة الصعود هذه. الأدب العظيم يظهر في الفترات العظيمة ويواكب الازدهار على الصعيد القومي. ولكن المشكلة هي أننا لا نستطيع أن نضع قواعد حاسمة فالتاريخ من حولنا سلسلة من الاستثناءات. لقد عاش شكسبير في عصر صعود.
ولكن معاصره الأسباني ثرفانتس مؤلف دون كيشوت، عاش في عصر أفول. والغريب أن هذين العملاقين في الأدب العالمي توفيا في نفس العام أي 1616. فهل لهذه المفارقة معنى؟ إن دراسة الأدب من خلال العصر والبيئة ربما تجسد هذا المثال أبلغ تجسيد. ولا شك أن من الصعوبة بمكان أن نعتمد منهجاً محدداً في دراسة عمل أدبي، ثم نعمم هذا المنهج بنتائجه على أعمال أدبية أخرى. فلكل عمل أدبي مفاتيحه التي ينبغي اكتشافها وكأنها لا تصلح لعمل سواه.