منذ أربع سنوات هناك نوع من المفارقة في ما يحدث في العالم العربي، وللعالم العربي. فمن ناحية، تزداد الأحداث وضوحاً، وخطورة. في المقابل، تزداد الصورة السياسية للمنطقة غموضاً. لعلي أبادر هنا إلى أنه ليس في هذا إشارة إلى مؤامرة ما. وإنما إشارة إلى حقيقة ما يحدث. لم تعد المنطقة العربية منطقة دول حصرياً، كما كانت عليه قبل ثمانينات القرن الماضي. باتت منطقة دول وميليشيات أيضاً. وكان من الطبيعي أنه في هذا السياق لم تعد الدول العربية تمسك بالقرار في المنطقة، ولا بمسار الأحداث فيها، كما كانت تفعل. هل لاحظت مثلاً أن عدد الميليشيات وصل إلى أضعاف عدد الدول العربية؟ إليك هذه القائمة الأولية بأسماء الميليشيات الأكثر تداولاً في كل من العراق وسورية واليمن: فيلق بدر، عصائب أهل الحق، جيش المهدي، كتائب أبو الفضل العباس، جيش المختار، الحوثيون، حزب الله اللبناني، حزب الله العراقي، حزب الله السعودي، جبهة النصرة، أحرار الشام، جيش الإسلام، الجبهة الإسلامية، جيش أنصار السنة، كتائب ثورة العشرين، الجبهة الإسلامية للمقاومة العراقية (كتائب صلاح الدين)، جيش محمد، فصائل المقاومة الجهادية (عراقية)، كتائب حزب الله (عراقية تشكلت بمساعدة حزب الله اللبناني)، كتائب سيد الشهداء، سرايا السلام (عراقية تابعة لمقتدى الصدر)، حركة النجباء وكتائب الإمام علي. وفي سورية، هناك ميليشيا ليست معروفة على نطاق واسع تحمل اسم «جماعة خراسان»، أضف إلى ذلك ما يسميه النظام السوري بـ»قوى المقاومة الشعبية»، وهي الميليشيا المعروفة باسم «الشبيحة»، المكونة من الشباب العلويين الذين يدعمون النظام. ثم هناك الآن «أنصار بيت المقدس»، وهي ميليشيا تشكلت في سيناء في أعقاب الانقلاب العسكري على «الإخوان» في مصر. أضف إلى ذلك الميليشيات التي ظهرت في ليبيا بعد سقوط نظام العقيد القذافي... وهذه ليست قائمة حصرية بأعداد الميليشيات التي أخذت تنتشر، خصوصاً في المشرق العربي منذ الغزو الأميركي للعراق. وبحسب مجلة «فورين بوليسي» Foreign Policy الأميركية، فإن عدد الميليشيات في العراق وحده يصل إلى خمسين. وصل الأمر بدول هي الأكثر غيرة وحرصاً على الاستفراد بالسلطة إلى القبول بالتعايش مع ميليشيات تتقاسم معها النفوذ والسلطة أحياناً في الإقليم خارج حدودها، وأحياناً أخرى داخل الدولة نفسها، كما في العراق واليمن مثلاً. متى، وكيف بدأت هذه الظاهرة؟ هي لم تبدأ مع الربيع العربي. بدأت بعد الثورة الإيرانية في 1979. أول ميليشيا عربية أنشأتها إيران كانت «فيلق بدر» العراقي في 1981، ثم «حزب الله» في لبنان عام 1982. كانت الأولى لمقاومة النظام العراقي السابق، والثانية تحت شعار مقاومة إسرائيل. بعد الغزو الأميركي للعراق وتدمير الدولة فيه، سمح الأميركيون بتفشي ظاهرة الأحزاب والميليشيات الشيعية تحت غطاء النفوذ الجديد لإيران، وهو النفوذ الذي كان يوازي النفوذ الأميركي. في المقابل، وكرد فعل، نشأت أحزاب وميليشيات سنّية لمقاومة الأميركيين والإيرانيين. من هنا بدأ تحالف الأمر الواقع بين الطرفين لمواجهة ما بات يعرف بـ «التطرف السني». وبعدما كان العراق يقف سداً في وجه جاره الشرقي، بات مرتعاً لنفوذ هذا الجار وميليشياته وميليشيات أخرى. وتكرر الأمر في سورية، وعلى صلة مباشرة بالدور الإيراني نفسه، فالدولة التي جعل منها حافظ الأسد طرفاً رئيساً في الصراع على المنطقة، عادت لتصبح على يد ابنه ووريثه ميداناً للصراع تتقاسم إيران والميليشيات فيها جغرافيا النفوذ والسلطة مع النظام الحاكم. بعض هذه الميليشيات يحارب النظام، وبعضها يحارب مع النظام. وعلى خلفية ذلك سأل الصحافي الأميركي جوناثان تيبرمان من مجلة «فورين أفيرز» Foreign Affairs الرئيس بشار الأسد إن كان قلقاً من قدرته مستقبلاً في السيطرة على الميليشيات الشيعية التي تدافع عنه الآن، خصوصاً «حزب الله» اللبناني، عندما تحين لحظة التوصل إلى حل سياسي للأزمة. لم يتمكن الرئيس من الإجابة عن السؤال، وكانت إجابته مرتبكة وتعكس ضبابية اللحظة الراهنة. هو قال إن «وجود ميليشيات تدعم الحكومة أحد التأثيرات الجانبية السلبية للحرب (لن تعجب هذه الإشارة حسن نصرالله). أنت تملكها الآن، لكن تجب السيطرة على هذا التأثير الجانبي». كيف؟ تهرب الرئيس من الإجابة. أكثر ما يلفت النظر في كل ذلك، وفي جميع أنحاء المنطقة، أن الميليشيات الآن هي من يملك زمام المبادرة. بعضها يحارب الدول، والبعض الآخر يدافع عن الدول نفسها. وفي كلتا الحالتين الدولة هي موضوع الفعل، وليست صانعة للفعل. بعض الميليشيات بادر لإقامة دولة، كما فعل «داعش» في العراق وسورية، وبعضها يعمل على إعادة تشكيل الدولة، كما يفعل الحوثيون في اليمن. هناك بعض ثالث يهيمن على الدولة عسكرياً ويرهنها لسياساته وأجندته، كما يفعل «حزب الله» في لبنان، وبعض رابع يريد أن يصادر الدولة ويجعل منها انعكاساً لمرئياته ومصالحه، وهذا ما تفعله الميليشيات الشيعية في العراق، وبتواطؤ من الحكومة العراقية. من جانبها، لا تملك الدول العربية غالباً، وتحديداً تلك التي تجنبت الانزلاق إلى هذا المأزق الميليشياوي، إلا رد الفعل، وأحياناً أخرى لا تملك حتى رد الفعل هذا. تلوذ غالباً إلى صمت مطبق. ولعل الحالة الأبرز التي تواجهها الدول العربية -خصوصاً الخليجية- بالصمت هو ما يحدث في اليمن. ربما أن الصمت يعبر عن آلية غير معلنة لاستنزاف الأطراف المتورطة في اللعبة، أي الإيرانيين والحوثيين، لكن آلية الاستنزاف إذا لم تكن جزءاً من استراتيجية واضحة، فإنها قد لا تزيد الأمر إلا صعوبة وخطورة على صاحب الآلية والمستهدف بها. كانت هذه صورة المشهد العربي منذ 2003، عام الاحتلال الأميركي للعراق. تفرض هذه الصورة والموقف العربي فيها عدداً من الأسئلة لا يمكن من دون الإجابة عليها الوصول إلى حل للمأزق الحالي: لماذا قبلت الدول العربية بالتعايش مع الميليشيات ابتداء؟ ولماذا تسامحت مع دول تستمرئ التعامل مع فكرة الميليشيات؟ ما هو مبرر تركيز اهتمام المنطقة على وحشية تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، وهي وحشية لا خلاف عليها؟ هل تختلف هذه في شيء عن وحشية الميليشيات الأخرى، سنّية وشيعية في العراق؟ وهل تختلف عن وحشية النظام السوري والميليشيات المنخرطة معه في حرب مدمرة في سورية؟ لماذا تتجاهل الإدارة الأميركية أن النظام السوري، ومعه إيران، تسببا في قتل أكثر من ربع مليون من الشعب السوري، ولا ترى إلا إرهاب «داعش»؟ إذا كان الإرهاب يتغذى حالياً على الطائفية، فلماذا الصمت العربي، وقبله وبعده الأميركي، عن الدور الإيراني وطبيعته الطائفية؟ والأهم من ذلك، ما الذي يمنع الدول العربية، خصوصاً السعودية، من تبني مشروع للمنطقة ينسف المشروع الإيراني ويسحب ورقة الطائفية من التداول؟ هل طلب أحد، خصوصاً الأميركيين، من إيران التوقف عن دعم الميليشيات والإرهاب؟ لماذا التركيز على جانب واحد من الإرهاب والتغاضي عن الجزء الآخر؟ ثم من المسؤول عن هذه الفكرة الغبية التي ترى محاربة الميليشيات العربية السنّية بميليشيات عربية شيعية؟ هذا ما تريده إيران، واضح، لكن هل هذا ما تريده واشنطن؟ ثم لماذا الصمت العربي على كل ذلك؟ هل يعبِّر الصمت هنا عن سياسة؟ أم عن عجز عن امتلاك سياسة؟ * أكاديمي وكاتب سعودي