الحياة - حملة آثمة مزقت أشلاء عالمنا العربي، أصابت الجغرافيا والأجساد والمُعتقد، ونهضت بصناعة الأحزمة الناسفة، جسد المعرفة تسمم بالكراهية، ورموز الفساد تحزموا بحصانة الرأسمالية. تعددت أصناف البصمة المُحتقرة بدماء الأبرياء بعد أن مزقوا وثائق قيم الوطنية. الجروح لم تعد بحسن نية بعد اعتناق وصمة عار نزغات الشيطان، وجمر حدائق «الكاوبوي» المدسوسة تحت طواقي حائط المبكى، نهر النيل يبكي دفن صناديق الحرية وإعادة الحياة لتابوت أمات أرض الكنانة سبعة عقود لأسباب و...
توقف جمال وهو يسمع صرخة (زغرودة) والدته، نزل مسرعاً من غرفته المعزولة في الطابق العلوي بمنزل العائلة في الإسماعيلية، قبل أيادي والديه، وجلس صامتاً أمام شاشة التلفاز يستمع ويشاهد، ذرفت الدموع من عيني والده وهو يقول: الدرب سينطلق بين أرض الكنانة وأرض الحرمين الشريفين، قدر مصر والسعودية ألا يتجزأ الدرب، يجب ألا نخون هوية العقيدة والدم واللغة والمصير المشترك.
«يبوجمال، من النهارده مُش حنزرع المانجو لمصر بس لا، مزرعتنا كبيرة والحمدلله، حنزود الإنتاج ونصدر للسعودية، وعلي نذر أول ما يفتتحوا الجسر حوصل 1000 كرتون من مانجو (الزبدة) لأهلنا في تبوك، وكمان حنذهب كلنا إن شاء الله للحج عن طريق الجسر الجديد، وحاخذ معاي اللي يقدرني ربي عليه هدية لأهل مكة المكرمة، والمدينة المنورة، دول حبايبنا وأهلنا، الله يبعد عنا وعنهم ولاد الحرام»! كانت هذه كلمات الحب التلقائية والبراءة على سجيتها، أُم جمال تعبر عن فرحتها بإعلان إنشاء جسر الملك سلمان الذي سيربط مصر بالسعودية.
عاد جمال لغرفته المنزوية في الطابق العلوي، والمطلة على أشجار المانجو والبرتقال والفراولة، بمزرعة والده في الإسماعيلية، قلب الأوراق وبدأ يكتب من جديد، وعنونها برسالة الدّرب. أشغلنا الساسة بالخطب، وأشغلتنا الجامعة العربية بالبيانات والمحاضر والأوهام، أوصلتهم للاعتقاد أن الشعوب العربية تروض بنشرات الأخبار ومقالات وقصائد المديح، لم يفهموا أن هذه المهدئات ملكهم وحدهم، تتطاير مع الريح وتبقى معاناة الشعوب على الأرض وآلام في الوجدان.
أم جمال زغردت لرسالة الدرب التي أعلنها الملك سلمان بن عبدالعزيز، ملك السعودية، الجسر ليس درب يربط اليابسة، لقد ربط فؤاد أمي وروض مشاعرها تجاه الأهل على ضفة اليابسة الأخرى، الدرب يقين وبصمة أصابت الروح بأمل ورسالة ذات جناحين، بين الحرمين والأزهر، وبين النيل والنخيل.
كفانا ثرثرة البهتان أيها العرب، خبر الدرب ألهج الألسن بالبشارة، وبلل شرايين الروح بالحياة، وكما قال إبراهيم الكوني: «يرقص بنا الدرب بقيثارة النبع في الجوار، لا نستشعر عبث البدن في الصعود لأن ميلادنا في الوجد يطيح فينا بثقل الجسد ويحيي خفة الطير، يحررنا موال الماء في النبع فنسير بروح عارية، نسير بل نطير حتى نجد أنفسنا في أعلى ذروة». المصريون والسعوديون، رقصوا وطاروا ووصلوا لأعلى ذروة، ترى من يتربص بهم، ومن الذي أصيب بحال اكتئاب، ومن الذي يجهز أحزمة لنسف مخططات الجسر على الورق؟ استسلم جمال للنوم، واستيقظ عوّاد في تبوك، كان على موعد لإنجاز بعض الأعمال في الغرفة التجارية، شاهد حشد من المستثمرين في الزراعة والصناعة والعقار يتحدثون عن الجسر، وبينهم عدد من الأخوة المصريين المقيمين في المنطقة، رقص بهم الدّرب المنتظر ودب الأمل في النفوس.
موعدنا معكم أيها المصريون بالورود والزيتون والعنب، يقول أبا عوّاد، ويرد علية هشام، المُنتَجات القطنية، والمانجو والفراولة المصرية ستكون بين أحضانكم، وقال حمدان الهائم بالسياحة: سنجعل بين شرما وشرم درب من العشق لنطير بالأحلام تحتفل بالفوز بالحقيقة، وتسجن أصوات الكراهية في دمامل أصحابها، الجسرُ قيمة اجتماعية تضامنية، وركيزة اقتصادية، ومستقبل لعلاقات استراتيجية. قاطعه الذي لديه علم بسكري القصيم وقال: سنجبر المصريين على التخلي عن المهلبية، وسنغزوهم بالتمر السكري مع شربة من مياه زمزم لنجعل المحبة بيننا عذبة القول والفعل.