الحياة - نزعم أننا تعلمنا من المحنة التي ضربتنا. وأننا استخلصنا العبر والدروس. وأن المأساة لن تتكرر. ولن نغامر مجدداً بسلامة بلداننا. ولن نسمح باستباحتها مرة أخرى على أيدي قساة الداخل أو قساة الخارج. ونقرأ دراسات. ونتصفح مقالات. ونسقط في الأمل. ونقول إن كل الشعوب وقعت في التهلكة. ثم استوعبت الدرس وخرجت أكثر صلابة مما كانت.
نتوهم أن شعبنا استيقظ من غفلته. ولن يسقط ثانية في أيدي تجار الحروب. أو في أيدي مهندسي الاختراقات والتدخلات. وأن مشاهد الخراب وقوافل الأرامل والأيتام لن تطل مجدداً. وان الدم الذي سفك ضاعف حصانتنا. وأننا اكتشفنا أن وحدتنا هي الحل والمفتاح.
وغالباً ما نتهرب من مواجهة السبب الحقيقي لآلامنا. كأن نقول إنها كانت حروب الآخرين على أرضنا. وإن شعبنا طيب لكن الحيلة انطلت عليه. وإن الدول الكبرى تلاعبت بمشاعرنا. وصبت الزيت على نار أحقادنا. أو نقول إن المستبد هو السبب الوحيد. وإن غيابه سيوقف انزلاقنا نحو الهاوية. وإننا أدركنا خطورة الارتهان للخارج. والانزلاق إلى حروب أكبر منا. وتعلمنا أن المؤسسات هي الضمانة.
كلما خبت نيران حرب أهلية نعاني من خطر الاختناق من شدة العناق. نتبادل القبل أمام الكاميرات. ونسلك طريق المفاوضات. نجهز خطة لإعادة الإعمار ونستجدي الدول المانحة. ونبشر المواطنين بأننا قلبنا الصفحة المؤلمة. وأن عليهم الاستعداد لخوض معركة التنمية. واستعادة موقع لبلادنا تحت الشمس.
لكننا لم نتعلم.
وصلت إلى بيروت بعد ساعات من وصول الرئيس فرنسوا هولاند. لا بد من توجيه شكر إلى هذا الرجل. كان باستطاعته أن ينسانا. فبلادنا الغارقة في الفشل والنفايات لا تنام على ثروات تغري. وأمراضنا العميقة لا تشجع أبرع الأطباء على المحاولة. لقد تبرع بجزء من وقته لتفقد المريض اللبناني. لتفقد المريض الذي يتآكل جسداً وروحاً.
وشعرت بقدر غير قليل من الإهانة. يأتي سيد الإليزيه فلا يكون الرئيس اللبناني في استقباله في المطار. يأتي الى بلد يعجز منذ عامين عن انتخاب رئيس. بلد يصل عدد اللاجئين في أراضيه إلى ما يقارب ربع سكانه. بلد مجاور للبركان السوري الذي يسعل جثثاً ودماً وتفككاً. البركان المتاخم الذي لم نتردد في الانخراط فيه.
تذكرت أن الضيف الفرنسي جاء بعد أيام على مرور الذكرى الـ41 للرصاصة الأولى في الحرب اللبنانية. استقبلنا الزائر بجمهورية مشلولة مقطوعة الرأس. أغلب الظن أننا توسلنا إليه. أن يبذل مساعيه الحميدة لإقناع الرئيس حسن روحاني. ليتولى بدوره إقناع السيد حسن نصر الله بتسهيل عقد جلسة انتخاب الرئيس. ومع ذلك نتصرف كشعب مغرور. نباهي بديموقراطيتنا وفرادة تركيبتنا. وندعو العالم المحيط بنا أن يتعلم منا.
لكننا لا نتعلم.
أرتكب أحياناً في لندن خطأ القفز بين الشاشات اللبنانية. يا للهول. لا تزال البضاعة الكاسدة تلقى رواجاً. جاذبية المهرجين لم تتراجع. أنجبت السنوات الأخيرة جيلاً جديداً منهم. يهرم مهرج فيولد مهرج. يلعب بدم الناس واستقرارهم. وينقسم الجمهور بين المهرجين كما ينقسم بين فرق كرة القدم.
يا للهول. قصر الرئاسة شاغر ولا يرف لهم جفن. كلما صافحت شاباً لبنانياً سألك عن أسرع السبل للهجرة. ما هذا الاحتقار المريع للمواطن العادي. للقمته وكرامته وحقه في الطمأنينة. وبعضهم يذهب بعيداً. يقولون إن على اللبنانيين أن ينتظروا نتائج المباراة على الملعب السوري. وواضح أن الحل في سورية سيكون للأسف لبنانياً بامتياز. دولة ضعيفة وفاشلة تتلوى على أحقاد الحصص والأقاليم المعلنة أو المضمرة.
مؤلم وخطر أن تنزلق سورية إلى المصير اللبناني وما هو أدهى منه. كان المسؤولون السوريون يستخدمون تعبير «الساحة اللبنانية». اليوم يتحدث اللبنانيون عن التطورات على «الساحة السورية». فقدت سورية حصانتها. وتهشمت وحدتها. خسر شعبها حتى حق كتابة الخطوط العريضة لدستورها. خسر حق بلورة صيغة توزيع ما تبقى منها على المكونات.
من بيروت تتابع أخبار الانتفاضات المتلاحقة في البرلمان العراقي. وجود «داعش» لم يلجم شراسة الممارسات الديموقراطية. مناورات وفخاخ وعصبيات ومحاصصات ومكونات. البلد النائم على ثروة مذهلة يزداد فقراً ودولته تتجه نحو الإفلاس. والعملية السياسية تترنح ومعها وحدة العراق. لا يمكن تحميل صدام حسين المسؤولية. إنه ينام في قبره. ولا يمكن إلقاء اللوم على الاحتلال الأميركي، فقد صار بعيداً. كم سمعنا السياسيين العراقيين يقولون إنهم تعلموا من ويلات عهد صدام. وويلات التدخلات في شؤونهم. أبرز مواهبنا أننا لا نتعلم. نخرج من مذبحة لنعدّ السكاكين للمذبحة المقتربة.