2015-10-10 

العراق ... أو «كأنه العراق»

مشرق عباس

في 10 حزيران (يونيو) الماضي، تسمّرت الدولة العراقية متعبة أمام مطارديها، لكنها لم تستسلم بعد. الفارق أن ثمة من يفترض أنها لا تزال تجري محتفظة بكامل رشاقتها، حتى بعد مرور نصف عام على واقعة «داعش»، تماماً مثل إنكار الخرائط التي أنتجها ذلك اليوم وأيام سبقته، تقسيماً على الأرض، وفي النفوس، لم يكتسب شرعية الاعتراف. آخر دولة مركزية في العراق قادتها تجربة إسلامية طائفية تفتقر الى الرؤية، وانتهت الى إعلان المناطق السنية «دولة» بصرف النظر عن الطرف الذي أعلنها، وكانت التجربة الريفية القومية الشمولية قد انتهت عام 1991 بتحوّل المناطق الكردية الى «دولة» لم يتم الإعلان عنها رسمياً حتى الآن. ما تبقى من تلك الطريدة التي جاهدت لإقناع فرائسها بأن التهامها في هذه اللحظة التاريخية ينتهك تابوهات الطبيعة، هو اسمها وتاريخها، ورغبتها العجيبة في ممارسة لعبة الرفس والمقاومة، فمجرد احتلال جزء من بلد لا يعني أن التقسيم حصل فعلياً. ومجرد إعلان جزء من شعبها رغبته في الانفصال لا يعني أيضاً أنه انفصل فعلاً. العراق لم يرفع الراية البيضاء بعد، فهو لم يكن دولة مطاوعة، ولا عصية أيضاً، وعاش على حافة الانهيار حتى أصبحت تلك الحافة موطئ قدم في خريطة دائمة. لكن قدرة هذه الدولة /الأمة – الشعب/ في معرض إهمال الجراح المتقيحة، على ممارسة الرفس، ومقاومة الافتراس، ناهيك عن النهوض مجدداً وإعلان استئناف الجري، مرهونة هذه المرة بإعادة إنتاج الحياة، من أكثر تجارب «الغرغرينا» خطورة. الخطوة الأولى تبدأ بالتوقّف عن الاختباء خلف المصطلحات، فلا التعايش المشترك حَصّنَ العراق من التقسيم، ولا الجغرافيا، وبالتأكيد لم تحمه العواطف الجياشة والأناشيد الوطنية، كما لم يساهم الوسط السياسي الغارق في تناقضاته، وفي سلوكياته المريبة، وشعاراته الطائفية، في حماية العراق عندما كان ذلك متاحاً، ومرتبطاً بتبني فلسفة للحكم تستثمر في «المواطنة» بديلاً عن «السقيفة». لكن هذا الوسط استسلم لإرادة أقوى منه، فلا أحد من اللاعبين الإقليميين والدوليين مستعدّ لاحتمال تكلفة تقسيم العراق في هذه اللحظة، و»داعش» الذي أقدم على أول محاولة جادة لاجتزاء دولة داخل خريطة بلاد الرافدين، منذ بضع آلاف من السنوات، قدّم في المقابل نموذجاً دامياً عما يمكن أن تسفر عنه حرب الاستباحة المستمرة لهوية شعب. الجيران والأصدقاء والأعداء، استحضروا مصالحهم، وهي كما يبدو لم تنسجم كثيراً مع فكرة تشكيل دول جديدة في قلب المنطقة، خصوصاً إذا كانت ستقود الى نموذج «الدولة الإسلامية»، على رغم أن المغامرة الكبرى التي أقدم عليها «البغدادي»، لم تكن بلا ضوء أخضر، فالرجل مرّ بمئات إشارات العبور الأميركية والإيرانية والعربية والتركية، قبل أن يقدم على انتهاك خدر الخريطة. ومع هذا، فإن «البغدادي» يصبح جزءاً من الحل في النهاية، ويوقف من حيث لا يأمل حفلة قضم الأرض، فهو لم يقنع الجيران فقط بأن تقسيم العراق يمثل خطراً على وحدة دول لن تصمد طويلاً أمام العاصفة الطائفية الهائجة، وبأن دولته تمثل خطراً على مسيرة البشرية، بل نجح بالدرجة الأساس وبعد بحور من الدم المهدور، والفرص الضائعة، في إقناع العراقيين أنفسهم بضرورة الاحتفاظ بالدولة، وهم الذين تمادوا في تمزيقها، والتآمر عليها، والتنكيل بتاريخها، والعمل على تسهيل افتراسها. الحلول المقترحة ليست من ناتج عبقرية السياسيين العراقيين، فبعضهم لا يتمكّن حتى من فهم رموز الخريطة، بل هي ببساطة حلول واقع الحال الذي لا يجد بداً من إنقاذ العراق إلا بتقنين الفصل بين أطرافه المتصارعة، ومنح الزمن فرصة معالجة ما تراكم من الارتكابات المتبادلة. والحديث عن الفصل /فك الاشتباك/، عبر قوانين وإجراءات تذهب الى منح كل طرف قدرة الإدارة الذاتية من دون التورّط في قتل الدولة رسمياً، قد يكون، في معايير ظروف الدول الطبيعية، وصفة مؤكدة للتقسيم، لكن الأخير كان حدث بالفعل، عامَي 1991 و2014، وإن على العراقيين هذه المرة استعادة الوعي لحقائق الأرض، عبر التفريق بين الدولة ونمط الحكم. «اللامركزية الشديدة»، هي الطريق الذي كان جوهر اتفاق تشكيل حكومة العبادي، ولنا أن نطلق أوصافاً مختلفة على هذا الطريق، مثل «درب الانفصال» أو «درب التقسيم».. لكن الوصف الأكثر مصداقية هو «الفصل». حكومة حيدر العبادي ما زالت أمينة حتى الآن على المضي نحو «اللامركزية»، عبر تطبيق قوانين معطّلة، مثل قانون المحافظات 21 والذي سيضمن العديد من الصلاحيات والمصالح للحكومات المحلية، وقد يمنعها فعلياً من التحوّل الى أقاليم، وقوانين مستحدثة مثل قانون «الحرس الوطني» الذي سيمنح المحافظات أيضاً القدرة على تأمين دفاع ذاتي عن نفسها أمام تحديات مشابهة لتحدّي «داعش»، بالإضافة الى قوانين وإجراءات إضافية سيكون لها أثر في تحقيق مزيد من الحكم الذاتي، في مقابل إبقاء صلاحيات اتحادية في الحدود الدستورية لبغداد. الحديث عن إعادة تطبيق نظام مركزي في العراق مستقبلاً، هو إنكار للدستور العراقي نفسه الذي تبنى اللامركزية منذ السطر الأول في ديباجته، كما أن المخاوف من أن يقود تفكيك السلطات المركزية الى التقسيم، هي انكار آخر لحقيقة أن المركزية هي من قادت الى تقسيم عامَي 1991 و 2014. ليس «داعش» من وضع العراق أمام هذا الاختبار التاريخي للبقاء أو التفتت، فـ»داعش» نتيجة من نتائج سياق تاريخي، لكن الدمج القسري بين مفهومَي «الدولة» و»المركزية»، هو من قاد الى هذا الاختبار، واستمرار الدفاع عن هذا الدمج يتجاوز بلا مبرر الاعتراف بأن العراق اليوم ليس العراق الذي حفظته لنا مخيّلتنا الجماعية المتوارثة. ما يمكن أن نتخيّله فقط للمستقبل القريب، وبعد الانتهاء من تحرير الأرض من «داعش»، وإسقاط مشروع التقسيم الذي أعلنه «البغدادي»، هو دولة «كأنها العراق»، هذا أقصى ما سيورثه الذين عاشوا نكبات هذا البلد وحروبه، وتخضّبوا بدماء بعضهم، وبرّروها أو صمتوا عنها. وللأجيال القادمة أن تقرر بعد حين ماذا ستفعل.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه