العرب - سعى تنظيم الدولة الإسلامية منذ إعلان تأسيسه في المناطق الممتدة بين سوريا والعراق إلى امتلاك مقومات دولة حقيقية من النواحي العسكرية والجغرافية والسكانية والمالية، فقد مكّن التفوق العسكري التنظيم من فرض سيطرته على مدن كبرى كالموصل والرقة والرمادي، ومن استقطاب العديد من السكان لهذه الدولة، ومدّ تفرعاته الإقليمية والدولية من سيناء وليبيا واليمن وصولا إلى نيجيريا والقوقاز، واتخذ مجموعة من الإجراءات الرمزية لتكريس فكرة الدولة كإصدار جوازات سفر تحمل اسم الدولة وشعارها، وإصدار عملة خاصة بها، ولتأكيد تطبيق الشريعة اتجه نحو تأسيس دواوين الحسبة والزكاة والدعوة، وافتتح المحكمة الإسلامية، وغيرها مما أهّله لفرض دولته كنموذج أحيا به حلم الخلافة الإسلامية لدى مقاتليه أو الموالين له، ويمكن ردّ تفوقه في تأسيس هذا البناء إلى تلازم شرطين هما العقيدة القتالية والوضع المالي للتنظيم.
وساهمت عقيدة التنظيم العنفية بأيديولوجيتها المبنية على مجموعة نصوص فقهية تعود إلى بدايات الدعوة الإسلامية وإلى زمن الفتوحات، تم تفسيرها وفق ما تتطلبه الظروف، في استجرار مصادر التجنيد وانخراط العديد من الشباب ضمن صفوف التنظيم الذي ثبّت قوته واستطاع خلق حاضنة إضافية أنتجها الخوف، وذلك عبر اتباعه لكافة وسائل العنف وارتكابه المحرّمات التي أوجب الإسلام مراعاتها.
استطاع تنظيم داعش أن يمتّن نفوذه بأدوات تمويلية جعلته أكثر التنظيمات المتطرفة ثراء، وحققت له القدرة على خلق ما يشبه “الاكتفاء الذاتي” الذي مكّنه من تأسيس اقتصاد شبه متماسك للقيام بأعباء دولة الخلافة الإسلامية وأتاح له قدرات عسكرية كبيرة وإمكانيات ضخمة لعمليات التعبئة والتجنيد للمقاتلين، سواء أكانوا أجانب أم محليين.
واختلفت مصادر تمويل داعش وتجاوزت الموارد التقليدية التي تشترك فيها جميع الحركات الجهادية، والتي غالبا ما تولد من رحم تنظيمات أخرى أو تعلن ولاءها وبيعتها لأحد التنظيمات الإقليمية أو التنظيم العالمي للجهاد، ما يمدّها بمقومات البقاء ماديا وعسكريا في بدايتها ريثما تنتقل إلى مصدر تمويل يأتي من المتبرعين المنتشرين في مختلف الدول الإسلامية، والتي تشكل مصدرا هاما للحركات الجهاديّة كالتبرعات الخليجية التي تعد أبرز مصادر التمويل بالنسبة إلى جبهة النصرة، ومع ازدياد التضييق على مصادر التبرعات، والتدقيق من قبل البنوك وشركات التحويل على مصدر ووجهة التحويلات، أصبحت التبرعات تشكل جزءا بسيطا من مصادر تمويل التنظيمات الجهادية، ونتيجة لذلك بدأت الحركات الجهادية تعتمد على مصادر أخرى منها:
أولا: الغنائم التي تشكل موردا فعالا لكافة الحركات الجهادية، إذ تتعمد هذه الحركات اقتحام المراكز العسكريّة التي تحتوي على مخازن أسلحة ومعدات عسكريّة لتأمين هذه الاحتياجات، وهي الوسيلة التي اعتمدتها جبهة النصرة بسبب افتقادها لمصدر تسليح خارجي، كما استفاد تنظيم داعش من استيلائه على مقرات النصرة ومستودعات الأسلحة التابعة لها غداة إعلان الدولة، لتوفر له لاحقا أحداث الموصل بالعراق في العاشر من يونيو 2014، وانهيار الجيش في مدن وسط العراق تاركا أسلحته ومعداته غنيمة منحت التنظيم دفعة قوية وتمويلا عسكريا وماليا نتيجة الاستيلاء على بعض البنوك
ثانيا: النفط ويعتبر من أهم مصادر الدخل التي تدر عوائد مالية ضخمة، إذ تسيطر جبهة النصرة على جزء من النفط السوري، ويسيطر داعش على مناطق تمركز النفط في شمال وشرق سوريا، أي ما يقارب 60 بالمئة من النفط السوري قدرت قيمته في العام 2015 بنحو 875 مليون دولار قبل سيطرته على الموصل التي تعد أهم مدن النفط، ورغم استراتيجية التحالف الدولي التي ترتكز على تجفيف مصادر التمويل وخاصة النفط، إلا أن هذه الاستراتيجية لم تستطع تثبيت فعاليتها في منع التنظيم من استخراج النفط وبيعه إلى تركيا أو إيران أو للنظام السوري ذاته عبر وسطاء، مستغلا عدم رغبة قوات التحالف في ضرب حقول النفط ذاتها، والتركيز على قصف خطوط الإمداد، والتهديد بفرض عقوبات على أي جهة تشتري النفط من تنظيم داعش.
ثالثا: موارد اقتصادية غير تقليدية تحاكي الاقتصاد المافيوي اعتمدها التنظيم، مثل نهب القطع الأثرية وبيعها في السوق السوداء، وتجارة البشر والاتجار بالأعضاء وأموال الفديات الناتجة عن عمليات الخطف، والاتجار بالأسلحة، وزراعة المخدرات وبيعها وهي في مجملها تمثل صفقات مالية مربحة يضاف إليها الاستيلاء على أملاك الأقليات وأموالهم ومصادرة أموال بعض المواطنين السنّة، وفرض الزكاة عليهم، وجباية الضرائب في مناطق نفوذه، وهي تشكل أكبر مصادر الإيرادات ويتم فرضها على الأفراد والجماعات ومراكز التسوق والمرافق العامة وعلى التجارة والزراعة والتحويلات والرواتب التي تمنحها حكومات العراق وسوريا لموظفيها في مناطق داعش، في مقابل توفير الخدمات المدنية الأساسية التي توفرها الحكومات لخلق إحساس ربالشرعية لسيادتها.
الدولة التي يسعى تنظيم داعش إلى تثبيت دعائمها على مقومات أيديولوجية أصولية إسلامية وعلى القوة الاقتصادية كأساس لقيام الدول وبقائها، عدا عن أنها تشذّ بمفاهيمها عن قواعد الشريعة الإسلامية في عنفها، وفي إجبار السكان على نمط حياة محدد، تحت عنوان تطبيق الشريعة، لن تؤهله إلى تشييد البنى التحتية أو الاستثمار بسبب تبدّل جبهات القتال، كما أن الأعباء المالية المترتبة من شراء وسائط نقل واتصالات وأسلحة ودفع أجور المقاتلين وإقامة معسكرات التدريب وغيرها، ستكون أكبر بكثير من أن تغطيها هذه المصادر على مدى السنوات القادمة، وهذا سيؤثر سلبا على حاضنته الشعبية التي ولدت نتيجة لظروف الحرب أو الحاجة المالية، ولن تمثل ركنا صلبا لبقاء هذه الدولة، وبهذا تكون الأسس التي بناها تنظيم داعش ليست بالثبات الكافي لإقامة دولة فعلية قابلة للحياة إنما هي حلم طوباوي امّحت فيه الفواصل بين سلوك الدولة وسلوك العصابات.