العرب - قرر بحدي قريو التحوّل من الزراعة وبيع الحبوب والكهرباء للناس من طاحونته القديمة، إلى رئيس لأول دولة دينية في المشرق، حين ظن أن بوسعه أن يعقد مع الفرنسيين اتفاقا يؤسس بموجبه جيبا مسيحيا بين سوريا والعراق وتركيا قبل تأسيس لبنان على البحر، فأنشأ محكمة مستقلة ومركزا للدرك. وكان ضابط آشوري هارب من العراق بعد فشل ثورة الآشوريين فيه، هو من أقنع قريو بتلك الفكرة عن ضرورة قيام دولة كاثوليكية أرثوذوكسية تناسب الغرب، فأخذ قريو في تطوير دار البلدية لتصبح قصرا للحكم.
ومنذ ذلك الحين، وكلما خطرت فكرة من هذا النوع على بال من تخامره الأحلام، نسمع عن جهاد العرب لتأسيس حكومات جديدة تحارب التخلف وتعيد الماضي المجيد، لتنهار وتنشأ خلفها حكومة جديدة تقول إنها هي من سيفعل هذا، من تخوم المشرق وضفاف دجلة والفرات وعلى امتداد شواطئ المتوسط، فلا الدولة قامت ولا الماضي عاد ولا الحاضر حضر.
لكن بعض العرب اكتشف طريقة خيرا من هذا كله، وهي الادعاء بأن الأمور بخير، وأن المجتمع والتنمية في أقصى حدودهما، وعلى من يريد التأكد، البحث بنفسه، فليس لدى النخبة الوقت لهذا. وهكذا خربت البلدان وانهد البنيان. وقد قال عمر بن الخطاب يوما “توشك القرى أن تخرب وهي عامرة”. قيل “وكيف تخرب وهي عامرة؟” قال “إذا علا فجارها أبرارها وساد القبيلة منافقوها”. ولو سُمح للعارفين بنقد الواقع دون تزييف، لتغيّر المستقبل.
الفارق الحضاري بين راهن الأمم حديثُ علم. وقد ابتكرت له الحضارات مقاييس أبعد من الإنشاء والكلام الفارغ، منها على سبيل المثال مقياس نيكولاي كارداشيف الذي يحسب مستوى التقدم التكنولوجي لحضارة ما، بالاعتماد على كمية الطاقة التي تستثمرها.
وفي تقرير هام نشرته مؤسسة “ساينس ميتريكس” بعنوان “ثلاثون سنة في العلم” ظهرت ضرورة دراسة العلاقة ما بين العوامل الجيوبولتيكية والنشاط العلمي. فغطى التقرير تأثير أحداث كبيرة مثل انهيار الاتحاد السوفيتي واحتلال العراق وتداعياته على الشرق الأوسط، مبينا أن قارة آسيا وحدها ساهمت مؤخرا بـ155 بالمئة من النشاط العالمي، متجاوزة أميركا.
التقدم العلمي، وفقا لساينس ميتريكس، يعتمد على توفر الدعم المادي والنمو الاقتصادي والحرية الفردية والاجتماعية والقدرة على الخلق. فالحرية الاجتماعية تعزز الاندماج العلمي عالميا وتساعد على التكامل بين الثقافات. وقد برزت ظاهرة الارتباط ما بين الحرية والتقدم في تطور العلوم عند العرب خلال الفترة ما بين القرن الثامن والقرن الحادي عشر الميلاديين، ثم خبت تماما.
أراد قريو ويريد غيره اليوم الحصول على التقدم مستندين إلى علاقات ما قبل حديثة. ولكن ما إن طلع النهار حتى ذابت زبدة الدولة الدينية، وراحت تلك الطموحات مع الرائحات من نجوم الثريا. واكتفى قريو بافتتاح سينما في خان بهنو القديم، ثم قرّر التوسّع والتمدّد قبل داعش، فنقل تلك السينما إلى بيته قرب كنيسة مار جرجس وسمّاها سينما فؤاد. وكان أول ما عرضته فيلم “عنترة بن شداد”.