الحياة - سنحاول الانطلاق من وضعية واضحة: عندما نرغم بعض الأشخاص على تنفيذ أوامر أو القيام بواجبات ضدّ طبيعتهم، أي ضد الطبيعة البشرية، فإننا ندفعهم إلى أحد الخيارين: إما أنهم سيمارسون النفاق، وإما سيصابون بالعصاب الوسواسي، تلك هي المسألة بإيجاز ولنتابع؛ النفاق مرض اجتماعي قد يحمل أحيانا اسما مهذبا، الوسطية والاعتدال. والعصاب الوسواسي مرض نفسي قد يحمل اسما يتسم ببعض اللباقة، الغلو في الدين أو الإرهاب، علما بأن الإرهاب مصطلح لا يزعج من يعتبرونه مصطلحا قرآنيا. تعليل لا يخلو من تنطع. هل من خيار ثالث بين نمط التديّن الذي يقود إلى النفاق كمرض اجتماعي، ونمط التديّن الذي يقود إلى العصاب الوسواسي كمرض نفسي؟ هذا هو المنطلق الأول في مقاربتي لمسألة الإصلاح الديني.
ثمة لبس يجب رفعه: حين نطرح السؤال، ما الذي يطلبه الدين من الإنسان؟ فإننا عادة ما نقصد السؤال التالي: ما الذي يطلبه الخطاب الديني وليس الدين؟ وهذا خلط لا يجوز أن يستمرّ، إذ الفرق شاسع بين الأمرين. لكن لا بأس من توضيح بعض الواضحات أحيانا: الدين هو المعتقد القائم في الإسلام على ثلاثة مسلمات نظرية: أولا، الله، وليس صدفة أننا نطلق عليه أسماء متعددة بلا مشكلة، هو الذي خلق الكون. ثانيا، الله يريد منا ألا نظلم ولا نعتدي. ثالثا، الله سيحاسبنا على أفعالنا بعد الموت.
هذه هي المسلمات الثلاثة للعقيدة، والباقي كله تفاصيل تأويلية فيها نقاش، بل يجب أن يبقى النقاش فيها مفتوحا، طالما القاعدة تقول: الحقّ لا يُدرك كله. طبعا، في سياق شرح وتأويل تلك المسلمات تدخّل آلاف الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، وأهل الرواية، والحديث، والمفسرين، بثقافاتهم ونفسياتهم وخلفياتهم ومخاوفهم وعقدهم النفسية التي هي في آخر المطاف عقد كل إنسان، وصولا إلى شيوخ الفضائيات اليوم. جميع هؤلاء، وهم الأشد تأثيرا على عقول الناس، قد أنتجوا أنموذجا تأويليا يسمى بالخطاب الديني الشائع.
إن كان الخطاب الديني تأويلا ثقافيا لمسلمات العقيدة، فإنه ليس تأويلا نهائيا، ولا يمكن أن يكون نهائيا في أي لحظة من لحظات التاريخ، طالما أنّ العقل الأخلاقي، وهو المصدر الفعلي للتشريع، سواء في حضور نص ديني أو في غيابه، يتطور مع تطور التاريخ البشري (مثلا، من يجرؤ اليوم على الدفاع عن جواز اغتصاب الزوج لزوجته؟). لذلك من الطبيعي أن يكون تأويل القدماء للعقيدة خاضعا لرؤية إنسان العالم القديم إلى الطبيعة والمجتمع والإنسان، وهي رؤية تعتريها خمسة امّحاءات أثرت على أنموذج الخطاب الديني الشائع عندنا:
أوّلا، امّحاء الفرد، بحيث أن الفرد لا يوجد ولا يمكنه أن يوجد إلا داخل الجماعة. كما لا تتحدد هويته الشخصية إلا داخل جماعة من الجماعات الدينية والمذهبية والطائفية، وقبل ذلك، القبلية والعشائرية والأسرية، وأن الجماعات الفضلى هي التي تكون مثل البنيان المرصوص، بالمعنى العسكري أحيانا (في ما أسميه بعسكرة الإسلام)، وصولا إلى الجماعات المقاتلة اليوم. بمعنى أن الفرد غير موجود كذات حرة ومستقلة.
ثانيا، امّحاء المرأة، كجسد وصوت وسلطة، فهي عورة يجب حجبها عن الأنظار، وهي حطب النار، وأحيانا مثل الكلب تبطل صلاة الرجل، ولا تصلح للولاية، ودينها ناقص، وعقلها ناقص، وهي في آخر التحليل ليست ذاتا بل مجرّد أداة (أداة للمتعة، للإنجاب، للرضاعة، للطبخ، للغسيل، وأحيانا لخدمة أهل الزوج أيضا).
ثالثا، امّحاء الإرادة بمعنى امّحاء إرادة الإنسان أمام سلطة القضاء والقدر، والتي لا تطال الأبعاد الطبيعية فقط، وإنما تشمل الأبعاد المدنية والسياسية أيضا، في ما يسمى بالجبرية السياسية بحيث يفقد الإنسان حريته أمام مشيئة إلهية تتحكم في عواقب السياسة وتعاقب السلاطين. رابعا، امّحاء العقل أمام سلطة النقل، هذا النقل الذي تحوّل في آخر المطاف إلى مجرّد عنعنات ومرويات، فأصبحنا أمام نمط من الاستدلال الإخباري الذي يعطل العقل ويلغي البرهان، على طريقة عن فلان أن فلانا سمع فلانا يقول.
خامسا، امّحاء الإنسان (النوع البشري) أمام مفاهيم الأمة والجماعة والفرقة الناجية ودار الإسلام وأهل الذمة والطائفة، إلخ. هذه الامّحاءات تعتري الخطاب الديني الذي ورثناه، وتضعنا في خصومة دائمة مع الحداثة السياسية، ومع الحضارة المعاصرة. والطامة الكبرى أننا نخلط بين العقيدة (الدين) والتأويل الثقافي للعقيدة (الخطاب الديني). والنتيجة أننا نتوهم بأن تلك الامّحاءات جزء لا يتجزأ من العقيدة نفسها وهذا خطأ جسيم. ولنعد إلى المسألة:
الخطاب الديني، كما ورثناه عن القدماء، يرغمنا على تبني أوامرَ ونواهٍ ضدّ طبيعتنا، أي ضد الطبيعة البشرية، بمعنى ضد الفطرة الإنسانية. وهذا يقودنا إلى أحد الأمرين: إما النفاق الاجتماعي أو العصاب الوسواسي. لكن هل من الضروري أن نستمر في تبني خطاب ديني ضد الطبيعة البشرية؟.
يقال، الإسلام دين الفطرة، والفطرة تعني الطبيعة البشرية. هذه الفكرة واضحة. لكن، دعنا نتساءل معوّلين على الحسّ السليم: متى كان الرقص ضد الطبيعة البشرية؟ متى كان الاختلاط ضد الطبيعة البشرية؟ متى كان التغني بالحب والغزل ضدّ الطبيعة البشرية؟ متى كان الاستمتاع بالنحت ومشاهدة التماثيل ضد الطبيعة البشرية؟ متى كانت الأناقة والرشاقة ضد الطبيعة البشرية؟ متى كان السؤال والشك والاندفاع نحو المجهول ضدّ الطبيعة البشرية؟ متى كان التمرّد والتفرد والتميّز والتألق بعيدا عن ثقافة القطيع ضد الطبيعة البشرية؟ وإلا فبأي معنى نتحدث عن دين الفطرة؟ وعن أي فطرة نتكلم؟.
الواقع أن الخطاب الديني الموروث والشائع عندنا يجعل الإنسان المسلم في خصام ليس فقط مع الحضارة المعاصرة، ليس فقط مع المرأة، ليس فقط مع الحريات الفردية والأقليات الدينية، وإنما يجعله في خصام دائم مع الطبيعة البشرية ذاتها. وهنا يكمن الضرر الأكبر. شيء آخر، عندما يصبح نمط التديّن الشائع ضدّ الطبيعة البشرية، أي ضدّ الفطرة الإنسانية، فإنه سيحتاج إلى أكبر قدر من العنف الاجتماعي أو الاستبداد السياسي، أو هما معا، وذلك لأجل تطويع الطبيعة البشرية وإلزامها بما لا يلزم. وهذه إحدى معضلاتنا اليوم.