العرب - أكثر ما أثار سروري في الـ80 صفحة التي صدرت بعنوان “رؤية المملكة العربية السعودية 2030” هو الفقرات المتعلقة بالسياحة، “سنطوّر مواقع سياحية وفق أعلى المعايير العالمية، ونيسّر إجراء إصدار تأشيرات للزوار، ونهيّئ المواقع التاريخية والتراثية وتطويرها”. صار يمكنك أن تزور السعودية كما تزور الإمارات. لقد كانت خيبة أمل كبيرة حين أبلغني موظف السفارة السعودية أن بلاده لا ترحب بالزائرين. البلاد التي يقف مجدها على القرى لا يمكن أن تُغلق أبوابها لمن أحبها وأراد زيارتها. لقاء الأمير محمد بن سلمان، ولي ولي العهد السعودي، على قناة العربية أثلج صدور العرب، أول مرة يظهر على الإعلام شاب مليء بالطموح والثقة والكفاءة.
أعتقد أن المملكة قد حسمت أمرها في اتجاه المستقبل والهوية، ولعل أول تصادم مع المتشددين لمسناه حين قال الأمير في ذلك اللقاء لتركي الدخيل “العربية هي منبر عربي مهمّ جدا، وقناة يتابعها العرب والسعوديون بشكل مكثف، ونعتقد أن رسالتنا تصل إلى السعوديين والعالم العربي من خلال هذا المنبر”.
هذا كلام مهم لقناة إعلامية تنتهج الاعتدال وحرية الرأي، خصوصا إذا جاء بعد يومين من اعتقال المتشدد الشيخ عبدالعزيز الطريفي، صاحب المقولة التي أعاد نشرها 100 ألف شخص على تويتر “لو كانت قناة العربية في العصر الجاهلي لما اجتمع فيها سوى كفار قريش، وما أنفقت أموال بنو قريضة إلا عليها”. هؤلاء المتطرفون بحاجة إلى ردع ورسالة قوية بأن المملكة ماضية في نهجها المعتدل. ثم ماذا يفهم الطريفي في السياسة أكثر مما يفهمه شاعر جاهلي يهزج بين القبائل؟
|
ذكر الكراس الأنيق الخاص برؤية المملكة نحو المستقبل، “رؤيتنا لبلادنا التي نريدها، دولة قوية مزدهرة تتسع للجميع، دستورها الإسلام ومنهجها الوسطية، تتقبل الآخر”. كما أكد أن 50 بالمئة من خريجي الجامعات من النساء، وأن البلاد تسعى إلى “رفع مشاركة المرأة في سوق العمل من 22 بالمئة إلى 30 بالمئة”. أعتقد أن المستقبل أصبح أكثر وضوحا وأقل غموضا الآن.
المشكلة أن الهدف المعلن منذ إقامة الدولة السعودية هو الارتقاء وحماية الإسلام، وليس للارتقاء وحماية المواطنين، ولتغيير ذلك الهدف المعلن كما يطمح القادة السعوديون، هناك مخاطرة بالوقوع في التصادم الداخلي والعنف. ولأنني مهتم حقا بالموضوع أرى أن الهوامش أقل أهمية، كالعراق وسوريا. إن سؤال الحداثة يجب أن تتم الإجابة عنه في المركز وليس في الهوامش. إذا تغيرت السعودية يتغير كل شيء.
إن الحليفين العظيمين أميركا والسعودية قد اصطدما بالجدار بسبب السؤال الثقافي. فدعم الولايات المتحدة للسعودية، ذلك الدعم الذي سمح باستقرار البلاد لسبعة عقود ودر عليها شلالات المال والثروة، صار يُنظَر إليه كدعم للإرهاب والتطرف والوهابية بنظر الشعب الأميركي، وكذلك دعم السعودية للتحالف مع الأميركان بعد احتلال العراق، صار يُنظر إليه كدعم للشيعة وإيران، للقضاء على المذهب السني الذي على السعودية حمايته في نظر بعض السعوديين.
الخبراء السياسيون الإيرانيون لعبوا دورا خطيرا في دفع التناقض إلى حدوده القصوى، من خلال استعراض إيران العلني لنفسها كممثل للشيعة، عقائديا وسياسيا، وليس ذلك فقط، بل جعلت السعودية تراقب بعينيها ذبح السنة في العراق وسوريا، وهي عاجزة عن التدخل بمنطق ردة الفعل، لرغبتها في الخلاص من ماضيها الثقيل كدولة فاتحة وحامية للتوحيد، وتريد التحول إلى دولة حديثة تهتم بمواطنيها بالدرجة الأساس. إيران كادت أن تنجح في استدراج السعودية وتحطيم مشروع الدولة الحديثة لولا أن القيادة كانت في غاية الحذر.
كل من الولايات المتحدة والسعودية يعترف بأهمية الآخر، اقتصاديا وسياسيا، ولا شك أن علاقة صداقة وتحالف طويل كهذا، ولّدت نوعا من المحبة والألفة بين البلدين مع المصالح. المشكلة التي حدثت بينهما لها علاقة بالتاريخ والثقافة والإسلام، وليست لها علاقة بحسابات مخابراتية كما يحب البسطاء تفسير كل شيء على أنه مؤامرة.
من الممكن للسعودية أن تحقق هدفها، ومن الممكن لها ألا تحقق ذلك الهدف وتنتكس إلى الماضي السحيق. إلا أنني، شخصيا، بعد مشاهدتي للقاء الأمير محمد بن سلمان على قناة العربية أصبحت أكثر تفاؤلا وثقة بمستقبل المملكة والمنطقة العربية عموما، بما في ذلك بلدي الحزين العراق.
المملكة في حالة تحول، متململة من كراهية العالم، متلهفة للفكاك من ماض مثير للجدل، مدفوعة بضرورة اقتصادية. قادة البلاد قاموا باحتواء خطط مثيرة للتغلب على النزعات الدينية المعادية للتحديث، واللحاق بالمجتمع الدولي للأمم المتقدمة. السعودية وضعت لنفسها هدفا عالميا للتحول إلى قوة صناعية ومشاركة فعالة في النظام الدولي، التعليم في البلاد متطور، وقرارات الدولة واعية قادرة على استيعاب القوة الاقتصادية المتصاعدة من مصادر البلاد الطبيعية. المشكلة الوحيدة هي الموقف السياسي المرتبط بالإسلام والتشدد الديني
.
عام 2010 كتبت صحيفة أجنبية واسعة الانتشار تقريرا يفيد بأن الـ60 ألف متسول في مدينة الرياض الذين قبضت عليهم السلطات في حملة مكافحة هذه الظاهرة، كان ثلثهم في الحقيقة من المواطنين السعوديين. وبحسب إحصاءات البنك العالمي في الولايات المتحدة والأمم المتحدة، فإن قوة الدخل في السعودية عام 2009 أقل من نصف قوة الدخل عام 1980 رغم ارتفاع أسعار النفط حينها، فما بالك اليوم. وصنفت البلاد بالمرتبة 57 في معدل الدخل بعد دول أوروبية متواضعة مثل سلوفينيا وقبرص. وفي العام 2010 حين قامت شركة محلية بدراسة معدل الدخل السعودي السنوي للمواطن، اكتشفت أنه 15.734 دولارا فقط وحل في المرتبة الأربعين عالميا. هذا بالرغم من أن الدولة ثرية، لكن هناك تفاوتا كبيرا بين الطبقات. لهذا يؤكد الأمير محمد بن سلمان في “رؤيته” على ضرورة دعم الدولة لذوي الدخل المحدود، لعلمه بوجود فقراء في البلاد، وهؤلاء يشكلون الضحية الأولى للتطرف الديني عادة.
المملكة اليوم تتخذ قرارا مهما باتجاه النهضة والمستقبل وتفجير طاقات الشباب، وأعتقد جازما، أن هذا المستقبل سيشمل العرب جميعا، ويعطي دفعة قوية للتسامح والاعتدال في كل مكان.