الحياة - لم أسمع بل لم يسمع المواطن السعودي كلاماً مبهجاً ومثلجاً للصدر، كالذي أنصت إليه بانجذاب كامل لحديث ولي ولي العهد و«عرّاب التحول الوطني» الأمير محمد بن سلمان، في قناة العربية. لتكن انطلاقتنا الأولى في هذه المقالة من عتبات الحوار كما يحلو للنقاد السينمائيين المحدثين في دراستهم للنصوص الأدبية؛ أولها: الزمان المصطخب بالحروب المشتعلة من حولنا، من أقربها إلينا اليمن التي تحملت المملكة مسؤوليتها كاملة لأجل إحقاق الحق وقطع دابر القوم الظالمين، وسيدون هذا في سجل تاريخنا الوطني المجيد، فالأمير الشاب قائد هذه المعركة، هو ذاته قائد معركة التحول الوطني 2030. ثانيها: المكان الذي اختير لإجراء الحوار، الذي لم يكن معداً ببهرجة إعلامية طاغية كما كان يحدث في بعض الحوارات المهمة للأسماء الكبيرة، وليس أكبر من الأمير محمد بن سلمان كثالث رجل في كيان الدولة، اختير المكان بشكل عفوي.
لم يشغل المشاهد كثيراً بتفاصيله التي كانت غائبة تماماً أمام هيبة وأهمية المتحدث، وما يحمله في جعبته لمستقبل الوطن والمواطن، خرج علينا ثالث رجل في الدولة للمرة الأولى متحدثاً على قناة إعلامية متخلياً عن كثير من البهرجة التي تصاحب عادة أي مقابلة تجرى لمسؤول، بما فيها (البشت) ذو الهيبة الخاصة، ولأن الأمير يدرك حجم المسؤولية التي يحملها فوق عاتقه، وأنه جاء ليعرض ملامح وطن المستقبل على مسامع الناس، تخلى عن كل المراسم والبروتوكولات المعمول بها عادة مع الكبار، جاء مدخل الحوار بسيطاً غير متكلف.
كان الإعداد الذكي الذي سبق إجراء الحوار استوعب جيداً شخصية الأمير وبساطته في تناول الأفكار والتحليلات العميقة، حقيقة كنت متلهفاً لسماع الأمير منذ أن أصبح رقماً كبيراً في كيان الدولة، فمقولة تحدث كي أعرفك هي المعبر تماماً عن شخصية الناس، وكانت اللحظة الحاسمة ما بين كل ما كان يدور في خلد الناس تجاه الأمير الشاب وما هو عليه حقيقة، فما أن شرع المحاور بطرح أسئلته حتى انطلق متحدثاً بلغة واثقة لا ارتباك فيها أو زيادة أو نقصان، لم يكن يعوزه الوقت كي يعمل تفكيره ملياً عند استقبال أي سؤال كما يحدث أحياناً مع بعض المسؤولين المتلجلجين في إجاباتهم، بما يشي بتمكنه تماماً من مشروعه الذي تبنى العمل عليه، والقيام به حتى يرى النور واقعاً حياً في 2030.
عرفنا الأمير محمد بن سلمان للمرة الأولى بهذا الحوار، مما جعلنا لدى سماع حواره بإنصات واثقين أن مستقبل أجيالنا القادمة وضع على أسس متينة، وفق رؤية استلهمت قوتها من كينونة بلادنا وعمقها الإسلامي والجغرافي.
حقيقة أكاد أجزم أن حديثه، وهو يتحدث بثقة كاملة عن مشروع المستقبل، كان يعوزه وقتاً أطول، ومع ذلك فإيجاز الأمير كان بليغاً بما يكفي لانتظار ما سيأتي مستقبلاً، لا ندري كيف مضت ساعة الحوار من دون استشعار للوقت، ولعل المؤتمر الصحافي الذي عقب الحوار أجاب في جزء قليل عما كان يدور في خلدنا من تساؤلات، هذه التساؤلات التي ستظل قائمة في كل مراحل تنفيذ هذه الرؤية، لأننا أصبحنا اليوم محور العالم من حولنا، ومثار تساؤلاته، ولعل من أكبر التحديات التي تضمنتها هذه الرؤية هو خلاصنا من عبودية النفط، تلك التي عبر عنها الأمير بلغة واضحة لا تقبل المماحكة قائلاً: «النفط ليس هو عقيدتنا، والملك عبدالعزيز أسس دولة وواجه كل التحديات بلا نفط»، بمعنى أن هذه الرؤية تتوخى خلال أعوام التنفيذ الخلاص تدريجياً من الاعتماد على النفط كمصدر أساس لدخلنا الوطني، وبإيجاد بدائل أخرى تغنينا عنه تماماً من خلال كل المقومات الكثيرة والمتنوعة كبدائل الطاقة المتجددة، حتى يتحقق لها ما تسعى إليه من زيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية، من 163 بليوناً إلى تريليون ريال سنوياً، ولضمان ديمومة هذه العوائد الربحية وتشغيلها بطرق آمنة كانت فكرة تحويل صندوق الاستثمارات العامة إلى أكبر صندوق سيادي في العالم، يستوعب كبريات الشركات السعودية لتكون عابرة للحدود ولاعباً أساساً في أسواق العالم.
وهذا بدوره سيشجع الشركات الصغيرة على العمل بجد لتكبر وتدخل هذا الفضاء العالمي، اللافت هنا أن جميع الأفكار المطروحة التي بدأت تداعب عقولنا كحلم لا يصعب تحقيقه، كلها ستصب في مصلحة المواطن الذي سيندرج طواعية في هذه العملية التطويرية لسد حاجات السوق المنفتح على كل الأصعدة (المحلي والعربي والعالمي)، وسيوفر كماً هائلاً من الوظائف المتاحة لأبناء الوطن، وكذلك السكن المريح، ليس هذا فحسب، بل إن العمل على تسليع برامج الحج والعمرة وإدراجها في عجلة الاقتصاد والعمل على تهيئة المناطق السياحية لاستقبال السياح المتلهفين لزيارة المعالم التاريخية والمناطق السياحية، سيخلق فرصاً إضافية لأرباب التجارة والمال الذين سيتيحون المجال لشباب الوطن لمشاركتهم هذا الخير العميم، هذا بدوره - كما عبّر الأمير - سيبتلع البطالة ويئدها إلى الأبد. لذلك لم تنس الرؤية بناء منظومة تعليمية مرتبطة بحاجات سوق العمل، كونها من أهم عوامل تعزيز الاستثمار، إذ سيستقطب كماً كبيراً منهم، فمع كل المستحدثات التي نصت عليها الرؤية؛ كالاستثمار في الاقتصاد الرقمي الذي يجد جيل الشباب أنفسهم فيه، وقطاع التعدين والتوسع في قطاع التجزئة، وبناء شراكات زراعية استراتيجية مع الدول الأخرى، مع ما سيرافق ذلك من تدريب وتأهيل للشباب، ومنهم العاملين في القطاع الحكومي لأجل تطبيق مبادئ إدارة الموارد البشرية وتحقق النتائج المتوقعة.
أقول: كل هذا باعث على أمل جديد لمستقبل مختلف لمواطن كبلته السنوات الماضية بالحاجة والافتقار، إن لم يكن افتقاراً مادياً فهو افتقار صحي وتعليمي، ونحن نعلم يقيناً أن الواقع الصحي والتعليمي اليومي معتل بامتياز، من الأمراض التي تفتك بنا لا نعلم مصدرها، من ارتباك العملية التعليمية وضياع هيبة المعلم، من واقع الأسرة السعودية المرير التي لم تستوعب المراحل الانتقالية لها من قرية إلى مدينة ومن بادية إلى حاضرة، فأصبحت تعبر عن وجودها بأسوأ المنتجات الذهنية، كالارتكاز على القبيلة أو الارتهان إلى الجهة والمذهب، هذه الرؤية متسعة الأفق استوعبت في خطوطها العريضة كل ما كنا نتمناه، ولن نسأل عن آلية تنفيذها، فالفرح الذي استبد بنا والحلم الذي غمرنا فور الإعلان عنها، مؤشر على أننا نتجه في الطريق الصحيح، ونعي جيداً أن الطرقات حتى الآمنة محفوفة بالعقبات مسكونة بالتوجس، وخصوصاً أن السنوات التي تضمنتها الرؤية ليست قليلة، ونحن نعلم جيداً كم كانت تستغرق المعاملات لتنجز في بعض الدوائر الحكومية، فما بالكم بإعادة صياغة دولة وفق معايير حضارية، وما يستلزم ذلك من تطوير في لوائح وأنظمة كثيرة، اقتصادية وتعليمية وصحية واجتماعية، لأجل تمكين هذه الرؤية من أسباب النجاح، وإن كنت أتمنى أن يسبق هذه الرؤية سن قوانين شاملة منفتحة على كل المتغيرات، تستوعب كل هذه الأنظمة واللوائح، كي لا تصطدم هذه الرؤية بدهاليز السلطات التشريعية أحادية الرؤية في توجهاتها. وفق الله الشاب الأمير لكل ما فيه مصلحة الوطن والمواطن.