|
|||
العرب - شهدت السعودية قبل أيام إعلان رؤية المملكة 2030، وهي خطة إصلاحية تعيد هيكلة الاقتصاد والإدارة، لتتحول المملكة من دولة ريعية، إلى دولة استثمارية ومنتجة. لم تكن السعودية هي الأولى على مستوى الخليج في هذا التحول، فقد بادرت قبلها غير دولة جارة، لكن ما نرجوه هو أن تكون المملكة السلحفاة التي سبقت الأرانب، ومن حسن حظ المملكة أن قدراتها الجغرافية والبشرية والمالية تتيح لها تحقيق الإنجاز.
على هامش الإعلان، أطل ولي ولي العهد على شاشة العربية ليخاطب الناس شارحا خطته التي تبناها مجلس الوزراء، والحق يقال إن المقابلة أكثر من موفقة على صعيد الحوار والحضور، خصوصا وأن الأمير محمد بن سلمان تحدث بمنطق لم يألفه السعوديون على مستوى القمة، إنه منطق الأرقام الواضح والصارم والمشبع بحس نقدي هادف. كانت إطلالة ولي ولي العهد مبهرة حقا، إذ بدا إيمانه العميق بدولة المؤسسات، منتقدا كل النقد والانتقاد منهج “إدارة الخيمة”.
وبدا أيضا إيمانه بمبدأ الشفافية الذي دفعه إلى طرح نحو 5 بالمئة من شركة أرامكو للاكتتاب العام، وتحدث بصراحة عن أحوال وزارة الدفاع، فالجيش هو من أكثر الجيوش إنفاقا في العالم لكنه من حيث الفعالية في مرتبة أقل، لذلك لا بد من إنشاء شركة للصناعات العسكرية تعالج خلل الهدر، وتحدد الاحتياجات وبدقة وبفعالية، وتدخل وزارة الدفاع تحت مظلة الشفافية، وكان هذا الملف من التابوهات الرسمية طوال عقود.
وبدا كذلك حرص ولي ولي العهد على حماية المال وتنميته، وهذا هو المدخل السليم والناجع لمكافحة الفساد. والمال العام، لأسباب إدارية وهيكلية، كان بابا مشرعا لكل فساد مقصود وغير مقصود، وحاولت قيادات الدولة في أزمنة سابقة مواجهة الثغرات غير مرة، آخرها قيام الملك عبدالله، رحمه الله، بإنشاء هيئة مكافحة الفساد، لكن الشق تجاوز الرقعة، ونأمل أن تكلل محاولة “رؤية 2030” بالنجاح، خصوصا وأن أساسها يعتمد على منطق سليم، تصعيب الفساد بالأنظمة وبالإجراءات قبل ملاحقة الفاسدين.
والمؤتمر الصحافي الذي تلا إعلان الرؤية عزز الصورة الإيجابية لولي ولي العهد، فالرجل مدرك لما يقول وعالم به، ويشبه الشريحة الأكبر من التركيبة السكانية السعودية طموحا وتفكيرا وأسلوبا، الشباب.
وقبل نقاش المحاور الجوهرية في رؤية الأمير محمد بن سلمان، وجب التطرق إلى نقطتين ثانويتين؛ الأولى هي إصرار الأمير على طرح الأرقام الكبيرة، واستخدم في المقابلة وفي المؤتمر صيغ المبالغة اللغوية “أكبر، أقوى، في العالم، على وجه الكرة الأرضية” بشكل مكثف، كنت ومازلت أرى أنه لو صح ذلك علميا فإنه ينطوي سياسيا على مخاطرة ملموسة وصريحة. أما الملاحظة الثانية، وهي محلية صرفة، اختيار الرياض كمقر للمتحف الإسلامي، ومن باب الأمانة فإن هذا الاختيار ليس موفقا مطلقا، فالبعد الإسلامي للمملكة كامن في وجود الحرمين في الأراضي الحجازية، مكة والمدينة تحديدا، لذلك فالمنطقي أن يكون مقر المتحف في مدينة جدة قطعا وحتما كونها بوابة الحرمين الشريفين، هذا غير أن جدة تعرضت للإهمال زمنا طويلا، ومن حسن الحظ أن الملك عبدالله توجها باستاد رياضي جديد وفاخر، وليت الملك سلمان يتبع ذلك بتأسيس المتحف الكبير والعالمي فيها ولها.
النقطة الجوهرية في رؤية المملكة 2030 هي الإيمان بضرورة التغيير، وكانت التفاعلات السعودية الداخلية منذ أحداث سبتمبر 2001 تتصارع لغويا على توصيف هذه الضرورة، فهناك من سماها إصلاحا، وآخرون سموها تطويرا، وغيرهم سماها تحسينا وتنسيقا، وكنت أخشى أن ينتهي المآل إلى مصطلح التدريب، لكن خير الأمور الوسط، التحول، ولا يهم المسمى كثيرا لأن الأصل والمحك هو المحتوى، التغيير.
وهذا التغيير في عام واحد غيّر سمة لازمت المملكة منذ تأسيسها؛ المحافظة سياسيا واقتصاديا، من الناحية السياسية انتقلت المملكة من ردود الفعل والدفاع إلى الهجوم، فكانت عاصفة الحزم وغيرها من خطوات لها جذور خافتة في التاريخ السياسي السعودي، أما على صعيد المحافظة المالية والاقتصادية، فنحن هنا أمام منهج أرساه وزير المالية السابق محمد أبا الخيل الذي شغل الوزارة طوال عشرين عاما (1975 – 1995)، بل إن منهجه المالي والاقتصادي بدأ منذ دخل الوزارة عام 1964 وكيلا للوزارة، ثم نائبا للوزير الأمير مساعد بن عبدالرحمن آل سعود، واستمر نهجه حاكما للوزارة ومسيطرا على القطاعين المالي والاقتصادي بالأفكار وبالرجال إلى يوم 25 أبريل 2016، أي أن ذلك يشمل الـ21 عاما التي تلت مغادرته الوزارة، وكانت الجملة التي قالها الأمير في مقابلته التلفزيونية “كان أداء صندوق الاستثمارات ضعيفا، لقد تمكنا في عام واحد من إدخال 30 مليار ريال إلى خزينة الدولة، كما أنني لا أحبذ استخدام مصطلحات المحافظة والمخاطرة، الأفضل هو مصطلح (القرارات المدروسة)” إعلانا عن نهاية مدرسة أبا الخيل المالية والاقتصادية، وحتى لا يفهم حديثي في سياق خاطئ، فإن أبا الخيل من القامات الوطنية المشرقة والمشرفة والمحترمة التي قدمت الكثير للبلاد وللعباد، لكن الزمان تغير، فاقتضى ذلك رجالا جددا وأفكارا جديدة.
الاعتراف بالخطأ فضيلة على صعيد الأشخاص، والاعتراف بحاجة التغيير وضرورته فضيلة أكبر على صعيد الدول، وما يؤمن به الجميع أن تغيير الاقتصاد هو مفتاح ناجح ومجرب لتغيير السياسة والمجتمع، ولنا في انتقال أوروبا من الحقبة الزراعية إلى الثورة الصناعية وما واكب ذلك الانتقال من تداعيات وتفاعلات أسوة حسنة، ولنا في الربيع العربي الذي قدم تغيير السياسة على تغيير الثقافة والمجتمع دليل لكارثة الكوارث.
إذا نجحت رؤية 2030 فنحن ننتظر تغييرا شاملا وجذريا يكرس انتقال المملكة قيادة وشعبا إلى الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، وهذا لا يمنع تطعيم رؤية 2030 بإصلاحات سياسية بديهية وضرورية تقلل كلفة قفزة المملكة من سعودية 2016 إلى سعودية 2030، فأهم أسباب نجاح خطة ولي ولي العهد التفكير في عام 2031 كالتفكير في أعوام الرؤية، والدول المركزية، وعلى رأسها المملكة المركزية جدا، تتحمل مسؤولية أخلاقية تفرض على قيادتها أن تقدم لمواطنيها ما لا تقدمه دول أخرى لشعوبها.
وأهم الإصلاحات السياسية الواجبة، تعزيز النظام الأساسي للحكم بمحكمة دستورية، تعزيز دور الملك كحكم بين السلطات الثلاث، تعزيز قيم المواطنة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون بتشريعات واضحة ورادعة، نسف تدريجي للمركزية الإدارية، معالجة ترهل الدولة باعتماد مبدأ الدولة الرشيقة “حكومة أصغر وفعالية أنجع وشعب أكبر”، منح صلاحيات فعالة للمجالس المعينة (شورى، مناطق، بلديات)، اعتماد الفرد نواة للمجتمع السعودي، المصالحة بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الوضعي وبين أنظمة الدولة وبعض أجهزتها ومؤسساتها، تجديد جدي وجذري للخطاب الديني يحقق المعاصرة والحداثة، وليس أخيرا إعلان ملكي صريح ينظم الحريات العامة والخاصة بتدرج تواكبه سياسات إعلامية وتعليمية وثقافية حديثة وتنويرية. وتصريح الأمير محمد بن سلمان عن الفساد والمال العام والشفافية أغنانا عن كلام إضافي كثير.
قد يأتي من يقول وما شأن ولي ولي العهد، فهو مسؤول عن الشؤون الاقتصادية والتنموية إضافة إلى وزارة الدفاع، ورؤية المملكة 2030 اقتصادية بالدرجة الأولى، إن ما أنادي به هو من صميم الاقتصاد، فلا يمكن اعتماد السياسات الاقتصادية والمالية كجزيرة معزولة عن بقية قطاعات الدولة، وإلا فإن الرؤية ستبقى حبرا على ورق كحالات عربية مشابهة أبرزها التجربة الاقتصادية لحسني مبارك في مصر.
إن التحدي الأكبر أمام رؤية المملكة 2030 هو التنفيذ، فقد شاهدنا قبلها الخطط الخمسية، كان الورق الجميل في مكان أمام واقع بعيد في مكان آخر، مع الاعتراف بأن منطق الرؤية يختلف عن منطق الخطط الخمسية للأفضل والأنفع والأجدى.
العرس الإعلامي الذي واكب إعلان الرؤية نعتبره بارقة تفاؤل، أما العرس الحقيقي ننتظره عام 2030، فالاحتفال بالتنفيذ أولى من الاحتفال بالإعلان، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، والله من وراء القصد. |