|
العرب - زاد النظام السوري من تصعيده العسكري بعد انسحاب المعارضة السورية من جنيف، وشهدت مدينة حلب خصوصا، التي تمثل مركز ثقل للمعارضة، غارات جوية مكثّفة سقط فيها مدنيون وخلّفت دمارا واسعا. واعتبرت المعارضة أن هذا التصعيد جاء بضوء روسي أخضر للنظام السوري كآخر وسائل الضغط عليها للعودة إلى مفاوضات جنيف التي قررت الانسحاب منها مؤقتا.
حلب التي تعتبر من أقدم مدن العالم، والتي كانت العاصمة الاقتصادية لسوريا ويقطنها نحو خمسة ملايين سوري قبل الحرب، باتت مهددة بالانهيار الكامل. وتستعد جحافل الميليشيات الأفغانية والإيرانية والعراقية واللبنانية لشن هجمات للسيطرة عليها، وسط ما يشبه الصمت الدولي الكامل. لم يحرك الجانب الأميركي ساكنا أثناء ذروة التصعيد الميداني في حلب، وكان يجاري الموقف الروسي بضرورة عودة المعارضة إلى المفاوضات أكثر من اهتمامه بالوضع العسكري وسوء الوضع الإنساني، عودة بسقف أكثر انخفضا ومرونة تسمح بتمرير مشروع يُبقي على النظام السوري، ولو إلى حين.
الحملة العنيفة للنظام في حلب لا تعني أن المدينة ستستسلم له، فجيشه هناك متهالك، ولا تكفي القوات الموالية لإيران للسيطرة على المدينة الكبيرة، وأيّ محاولة للتقدّم ستكلف الجميع غاليا. وربما لدراية روسيا بذلك فهي تمارس ضغوطا لإجبار المعارضة على العودة إلى طاولة جنيف. ومن الواضح أنه لن يتمّ توظيف الحشود حول حلب إلا في حال حدث تطور إضافي ينهي فرصة الحل السياسي.
ولا يمكن التعويل على موقف الولايات المتحدة، فقد سهّلت بشكل غير مباشر التصعيد العسكري، خاصة بعد أن صرّح وزير الخارجية جون كيري قبل أيام أن هذه المدينة تضمّ البعض من مقاتلي جبهة النصرة وأنهم منتشرون فيها بشكل يصعب فصلهم عن مقاتلي المعارضة المعتدلة، وهو التصريح الذي استفاد منه النظام ليقول إنه يحارب “إرهابيين”.
على هامش التصعيد العسكري للضغط على المعارضة، تعيش حلب حالة حرجة جدا، فقد بقي حوالي 250 ألف شخص في أجزاء المدينة التي تسيطر عليها الجماعات المناهضة للنظام (كان عددهم 1.3 مليون عام 2014)، وشهدوا خلال الأسبوعين الأخيرين ارتفاعا هائلا في مستويات القصف والقتال والموت. ولم تبق سوى طريق واحدة مفتوحة للدخول والخروج من هذه المناطق، وفي حال تمّ قطعها ستصبح المدينة محاصرة بالكامل.
لا يمكن النظر إلى ما يجري في حلب الآن من وجهة نظر عسكرية بحتة، فهو دون شك استمرار لمفاوضات جنيف وجزء لا يتجزأ منها، وردّ متوقع من النظام السوري وروسيا على قرار المعارضة السورية تأجيل المفاوضات وتمسكها بمطالبها بهيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات تُنهي حكم نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
قرار النظام السوري إشعال حلب لم يكن وليد اللحظة، بل كان متّخذا قبل تعليق المعارضة مشاركتها في الجولة الثانية من مؤتمر جنيف وينتظر اللحظة المناسبة لتنفيذه، وهو ما أكده رئيس الوزراء السوري وائل الحلقي في العاشر من أبريل حين أعلن “نحن نستعدّ مع شركائنا الروس لعملية تحرير حلب ومحاصرة كل المجموعات المسلحة هناك والتي لم تلتحق بالمصالحة”. ونفت موسكو ذلك وقررت تأجيل العملية لاستخدامها للضغط على المعارضة وحلفائها لتمرير مقاربتها للتسوية في جنيف، وجاء قرار المعارضة بتعليق المشاركة إشارة البدء لتنفيذ هذا التصعيد العسكري.
تحتوي معركة حلب على أبعاد كثيرة في التوازنات الإقليمية والعالمية، فالنظام السوري يريدها محرقة لدفن حلم المعارضة، وتريدها روسيا لمعاقبة تركيا التي طالما وجدت في حلب امتدادا جغرافيا وسكانيا واقتصاديا لها، وتريدها إيران كموطئ قدم لتثبيت أقدامها في شمال سوريا، وتريدها الدول الكبرى ساحة لصراع الإرادات وقياس النفوذ.
في النزاع السوري المتضمن عدة حروب في حرب، يتحمل الجميع مسؤولية الكارثة. ويتنافس الكثير من اللاعبين، ففي موازاة مسار جنيف 3 يبدو من الواضح أن التوافق الأميركي/ الروسي غير مكتمل بعد. وروسيا لا تحكم قبضتها تماما على الملف السوري بسبب تدخلات إيران. والولايات المتحدة أشرفت على دخول لعبة الانتخابات الرئاسية الأمر الذي سينسيها سوريا لنحو عام، وكل هذا يدفع للاقتناع بأن الفكرة هي تلقين المعارضة السورية درسا لتعود إلى المفاوضات وتقبل بشروطها.
توقع السوريون أن تحرّك حلول النظام العسكرية ودمار حلب الدول التي تدعم المعارضة، لكن هذا لم يحصل، فالغرب عموما اختصر محنة سوريا بتنظيم داعش فقط، وكل ما يقوم به هو إرسال المزيد من التعزيزات العسكرية للتحالف الدولي ليقصف المناطق التي يوجد فيها هذا التنظيم. الولايات المتحدة فلم تتحرك إلا لإرسال 250 من قواتها الخاصة لتدريب ومساندة أكراد انفصاليين في شمال سوريا، فيما ينشغل الأتراك بالتهديد في دخول سوريا فقط لملاحقة هؤلاء المتمردين الأكراد المتحالفين مع حزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابيا في تركيا، أما الدول العربية فليس بمقدورها منفردة تجاوز الإرادة الدولية وتسليح المعارضة السورية لتستطيع وقف حرب النظام ضدها.
تؤكد كل الأطراف على أن نهاية الحرب السورية وفقا لموازين القوى القائمة ستكون عبر الحل السياسي في مفاوضات جنيف، وتعتقد أن الظرف الدولي قد نضج بصورة كافية للدفع بهذا الاتجاه، لكن إصرار روسيا على دعم مواقف النظام، ربما يفصح عن أن الظرف لم ينضج بعدُ سوى للمفاوضات، وليس لتطبيق بنود التسوية السياسية التي صيغت في قرار مجلس الأمن 2254 الذي يوصل إلى حل نهائي للأزمة السورية.
هناك إذن في حلب ما هو أبعد من مجرد معركة للسيطرة عليها، أو مجرد فرصة لانتقام روسيا من تركيـا، ومناسبة لتصفية حسـابات مذهبية إيرانية، ومعركة لتقرير مصير الأكراد ودولتهم التي يحلمون بها، كما تعكس جملة من المصالح والتوازنات الإقليمية والدولية، والخشية أن تصبح ساحة لصراع مفتوح بين الأمم، يأمل السوريون أن ينتهي يوما. |