الحياة - في أيلول (سبتمبر) 2011 كان رجب طيب أردوغان في زيارة لمصر، وخلال حفلة عشاء أقامها السفير التركي على شرف رئيس وزراء بلاده (آنذاك) وجّه إليه أحد الحضور من أعضاء تنظيم «الإخوان المسلمين» في مصر، والذين كانوا يدبّرون المكائد للوصول إلى الحكم وقتها، سؤالاً وصف فيه حزب «العدالة والتنمية» بأنه إسلامي، فردّ أردوغان بوضوح ان «حزب العدالة والتنمية ليس حزباً إسلامياً». وفي حديث تلفزيوني خلال الزيارة نفسها قال أردوغان إن «العلمانية لا تعني أن يكون الأشخاص كذلك، فأنا مثلاً لست علمانياً، لكنني رئيس وزراء لدولة علمانية». وقد تسبب هذا الموقف في صدمة لـ «إخوان» مصر الذين سمعوا ما لم يتوقعوه ممن أملوا بأن يكون حليفهم الأهم في المنطقة.
كان هذا قبل أن يغيّر أردوغان رهاناته ويدخل بكل ثقله في مغامرة لم يحسب عواقبها جيداً، بتحالفه مع «الإخوان المسلمين» في مصر وفي دول عربية مختلفة بعد حديثه هذا بشهور، ودعمه لكل محاولاتهم في زعزعة الاستقرار ونسج المؤامرات على الأنظمة الشرعية. ويبدو أن إعراض أوروبا عن تركيا وفشلها في دخول الاتحاد الأوروبي الذي وقفت أنقرة على أعتابه مريقة كبرياءها، قد أحدث رد فعل قوياً لديه، جعله، وهو الرجل الذي يحب «المشاريع» الكبرى، يبحث عن مشروع بديل، لا سيما أن الجانب الايديولوجي في نفسه يبقى مؤثراً.
راودت أحلام «السلطنة» رجب طيب أردوغان، لأنها تتفق مع خلفيته الفكرية، وتلبي بعض نوازعه، لكن ذلك كان مشروعاً سياسياً بالأساس، تمارس فيه تركيا وصاية على عمق عربي تحكمه جماعة «الإخوان المسلمين» من خلال فروعها المحلية في البلدان العربية. وقد بدا ذلك ممكناً مع اقتراب الجماعة من الحكم في مصر وتونس ثم حصولها عليه فعلاً، ونشاط «الإخوان» المحموم في بلدان عربية شتى مع نوع من الموافقة الضمنية من جانب الولايات المتحدة التي بدت وكأنها تدفع «الإخوان» إلى الصدارة وتتخذ مواقف لمصلحتهم.
اتسمت سياسات أردوغان وحزبه بالتصلب والتشنج، لا سيما بعد أن أسقط الشعب المصري حكم «الإخوان»، وهو ما جعل الحزب الحاكم في تركيا يبدو وكأنه فقد صوابه أحياناً. وأدى ذلك إلى توتر علاقات تركيا بكثير من الدول العربية التي هالها التدخل السافر في شؤونها، والدعم التركي لجماعة تمارس الإرهاب وتدبّر المؤامرات لقلب نظام الحكم في كثير من الدول العربية.
وعلى رغم أن التشنج التركي لا يزال ملحوظاً، فإن الأسابيع الأخيرة قد حملت إرهاصات تغيرات محتملة قد تعيد صياغة العلاقات بين تركيا وجماعة «الإخوان»، وتقود إلى انسحاب تدرجي من مربع التحالف المطلق والدعم غير المحدود للجماعة. وليس مستبعداً أن «تبيع» تركيا الجماعة إذا عقدت صفقة مناسبة وحصلت على ثمن سياسي واقتصادي ملائم.
أقوى هذه الإرهاصات يتمثل في تصريحات لعمر فاروق قورقماز، مستشار رئيس الوزراء التركي المستقيل أحمد داود أوغلو، قال فيها إن «من يريد خدمة المصالح التركية من اخواننا العرب عليه ألا يتجاوز سياسة العدالة والتنمية، فهناك شعارات أكبر بكثير من حجم تركيا عند بعض اخواننا العرب، وهذا يجعل بعض الأصدقاء الغربيين يخافون من تركيا في شكل كبير». وقال ملمحاً إلى تجارب «الإخوان المسلمين» في الحكم في بعض البلدان العربية ان «هناك أطرافاً صغيرة تطلق شعارات مريبة، وتنادي بمشروع فشل وأفشل المشروع الديموقراطي في بلادها، ولا أريدها أن تُفشِل معها المشروع الديموقراطي في تركيا».
وليس ممكناً أن نفصل هذه التصريحات لمستشار داود أوغلو عن التوتر الحاد في العلاقات بين الأخير والرئيس التركي أردوغان، الذي انتهى إلى إزاحة أوغلو من المشهد السياسي، وإعلانه أنه سيترك منصبه في مؤتمر استثنائي تقرر عقده في الثاني والعشرين من أيار (مايو) الجاري، وسيتخلى عن رئاسة «العدالة والتنمية». وشنّ أنصار أردوغان خلال الفترة الماضية هجوماً مكثفاً على داود أوغلو، ونُشر تقرير على شبكة الإنترنت، يبدو أنه لأحد مناصري أردوغان، يتهم داود أوغلو بأنه «متورط في مؤامرة غربية لإسقاط أردوغان». وأفضى هذا التوتر إلى إزاحة داود أوغلو من المشهد السياسي. ومثل هذه المواجهة الداخلية هي نتيجة للضغوط التي تعرضت لها تركيا، وأثارت خلافات حول الطريقة الصحيحة للتعامل معها.
الوجه العلماني الذي تحدث عنه أردوغان في مصر قبل أكثر من أربع سنوات قابل للاستعادة قريباً، فأردوغان، على رغم الضجيج الايديولوجي المعلن من جانبه، لا يتبع سوى مصلحته التي بدا له يوماً أنها تتحقق عبر اختراق الشرق الأوسط من خلال «الإخوان المسلمين»، وأنه يمكن أن يملأ الفراغ الذي أحدثه ما سمي «الربيع العربي». وربما بدأ أردوغان يدرك الآن أن رهاناته لم تكن في محلها، لذا سنشاهد تصريحات تشبه تلك التي أطلقها عمر فاروق قورقماز، وأن نجد بعدها من ينفيها، ثم تخرج تصريحات أخرى، وهكذا. وسيكون ذلك مجرد تكتيك يجعل طرح هذا النوع من الآراء مألوفاً، ليمهد لتقليص العلاقة مع «الإخوان» التي يبدو أنها باتت عبئاً على كاهل التصور التركي للمستقبل.
خسارة دول المنطقة جميعها ليست مما تتحمله تركيا، وأردوغان يدرك ذلك. وبعد أن بدأت مسيرة حزبه باستراتيجية «صفر مشاكل» التي حققت نجاحات لا تُنكر مع دول الجوار ومع الأكراد في الداخل، انقلبت بفعل التحالف مع «الإخوان» خلافات حادة مع كل دول الجوار، كما تفجّر الوضع داخلياً مع الأكراد، وحتى حزب «العدالة والتنمية» بدأت تضربه الشقاقات. والاقتصاد التركي ليس في أحسن حالاته، إذ تتعرض الليرة التركية لدورات مقلقة من الهبوط بفعل عوامل سياسية، فقد ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة بنسبة 2.6 في المئة بمجرد إعلان داود أوغلو اعتزامه ترك منصبه. وليست هذه هي المرة الأولى التي تتراجع فيها الليرة، إذ تكرر ذلك مرات خلال السنوات الماضية. وكل ما سبق يدفع أردوغان إلى مراجعة سلوكه ومعالجة جذر المشكلة، وهو الرهان الفاشل على «الإخوان».
تراجعات أردوغان ليست أمراً مُستغرباً، فهو يتودد لإسرائيل ويتصالح معها بعد أن كان قد صعَّد حربه الكلامية ضدها، وهو يحاول تصحيح علاقاته مع الإمارات ويبعث بوزير خارجيته إليها بعد أن كان قبل فترة قصيرة يكيل لها الاتهامات ويصعّد معها من خلال أبواق إعلامية تابعة له. وهو يتراجع بقوة في موقفه من روسيا بعد أن صعَّد عداءه معها إلى حده الأقصى قبل بضعة شهور. وفي المقابل لم يحرك أردوغان ساكناً أمام ما شهدته حلب من قصف وحشي بعد أن حرَّض أهلها على الثورة وأوحى إليهم بأنه سيكون إلى جانبهم بكل ما يملك من قوة. ومن هنا فإن أردوغان هو «رجل تغيير المواقف» بامتياز، وتقلباته وتحولاته تتم بسرعة لافتة للنظر. وليس من المستغرب أن يحدث أي تطور دراماتيكي بين ساعة كتابة هذه السطور وساعة نشرها.
تركيا ستعيد النظر في علاقتها مع «الإخوان» لأنهم لم يتغلغلوا فيها ولم يتحكموا في قراراتها ولم يمدوا جذورهم في مؤسساتها، بل إن الجانب التركي هو من كان يحدد كيف وإلى أي مدى سيكون تحالفه مع الجماعة وفقاً لما يراه من مصالح محتملة. وتظل تركيا أكبر من تنظيم «الإخوان»، وهي قادرة على التخلص من علاقتها به وقتما تقرر، لأنها الطرف الأقوى. ويبدو أننا سنشهد ذلك قريباً.
الخوف كل الخوف على دول صغيرة تسرّب «الإخوان» إلى كل مفاصلها، ويكادون يتحكمون في كثير من جوانب القرار في مؤسساتها السياسية والاقتصادية والفكرية والدينية. وفي حال هذه الدول الصغيرة، فلن يتم انتزاعها من قبضة «الإخوان» في اللحظة التي سيصبح فيها ذلك لازماً، إلا من خلال عملية جراحية مؤلمة.