2015-10-10 

ما أكثر مبدعيه، ما أقلّ صدّيقيه

سمير عطالله

تتوارى أعمال ألكسندر نجار خلف لغة فرنسية جميلة يعبث بها الانحسار. وقد يُحزنك أن مصاعد أوتيل ديو تُعلن عن التوقّف بين الطبقات باللغة الإنكليزية. أو أن التعليمات في مكاتب التأشيرات مكتوبة كلها بالإنكليزية، أو بالأحرى، تلك الأميركية الطاغية التي أصبحت لغة العالم، تغيب من حولها اللغات الصغيرة وتتراجع لغات الأمم الكبرى كالإسبانية، والفرنسية. مخلصاً للفرنسية التي ورثها عن أبٍ كان يسمّيه "المايسترو" وضع ألكسندر نجار نحو ثلاثين عملاً وبحثاً معظمها حول جمالات لبنان. عمله الأخير "Dictionnaire amoureux du Liban" (قاموس العشق اللبناني) سَفْر من التنوّع الأخّاذ المراوح بين منقوشة الصعتر ورحلات جيرار دو نرفال، أو أرنست رينان، أو لامارتين، إلى هذا البلد الموزّع في التاريخ وفي الجغرافيا بين جبال عصيّة وبحر ومرافئ كثيرة الوداع، كثيرة الترحاب. في نحو 850 صفحة يعرِّفنا صاحب القاموس على ما نظن أننا نعرف. يغوص في أعماق البساطات، ويخرج منها دائماً بأصداف ولآلئ وألوان وحصىً وذرّات وأحافير ومَنسيات تشكّل في مجموعها متحفاً ممتعاً من الحبر والورق. لا عصبية لبنانية عند ألكسندر نجار. لا تولّه سعيد عقل، ولا افتتان يوسف السودا، ولا تعميقات شارل مالك، ولا غنائيات الزجّالين وحداء العشّاق الذين لم يروا في الأرض شيئاً مثل لبنان، الذي قال عنه صلاح ستيتية قبل أيام: "لو أنه لا يزال موجوداً، لكان هو الوطن الذي أختار". على أن القاموس في مواضيعه المختارة يكشف عواطف ألكسندر نجار، ويكشف مشاعره الخفيّة التي هي عصارة العشق الفرنكوفوني والثقافة الفرنكوفونية. وإلى حد بعيد، التولّه الفرنكوفوني بهذه القطعة من الجبل والبحر، التي اعتقدوا أنها سوف تبقى درَّتهم على المتوسط، تتكلّم العربية وتُعلن مشاعر العروبة، ولكنها في الوقت نفسه، تقرأ رامبو وتحفظ من أبي نواس ما قاله في تفاح لبنان أو ما قاله لامارتين في تبجيل فخر الدين الثاني. عندما تنتهي من هذا المجلد، الغزير بالبحث والجهد والمعارف، يُخيّل إليك أنه من المستحيل أن يكون هذا قاموس بلد في مثل حجم القاموس. ثم تكتشف شيئاً أكثر أهمية، وهو أن ما فات ألكسندر نجار من المادة القاموسية يكاد يكون أوسع بكثير مما أشار إليه. لا شك أن أي أنغلوفوني أو عربي محض، كان سيملأ الصفحات بالكثير من الأسماء التي تستحق الذِّكر في تدوين حياة البلدان وتواريخها وعلاماتها الفارقة. تصدر سلسلة "قاموس العشق" للبلدان منذ عقود عن دار "بلون" الباريسية، وتُوكَل مهمة وضع القواميس إلى كبار الكتّاب في كل بلد معني من غير أن يكونوا بالضرورة من كتَبَة الفرنسية. فالكتّاب اللاتينيون في السلسلة هم حمَلَة نوبل. وأعترف أنني طالما حلمت، وتراجعت عن الحلم، بأن أضع ذات يوم هذا القاموس. وإذ أقرأ ألكسندر نجار، أشعر بالندم لأنني حلمت. فلا أعتقد أنه كان في مثل هذا الذوق في الاختيار، ومثل هذا الجهد في الصبر والبحث. تحت حرف الطاء، مثلاً، يتنقّل بين طوابع البريد لكي يروي من خلالها تاريخ مرحلة من لبنان. منذ العصر العثماني، مروراً بالانتداب، وصولاً إلى الاستقلال، يعدّد الإصدارات الواحد بعد الآخر. تسعة إصدارات بين 1936 و1941 في عهد إميل إده، بينها واحد يمثّل صورة الرئيس مما جعل أحد النواب المعارضين يتساءل عن سبب هذه النرجسية. فأجابه المحامي الشهير جان جلخ، بفجاجة: "من أجل أن تزيل بلسانك صمغ الطابع كلما أردت أن تبعث برسالة". في 22 تشرين الثاني 1943 صدَر أول طوابع الاستقلال وعليه صورة الشيخ بشارة الخوري، وصوَر أخرى لصيدا وخليج جونيه ولوحة نهر الكلب. وفي عهد الرئيس كميل شمعون 24 إصداراً تمثّل تدشين المشاريع الكبرى كالمطار، والليطاني، ومغارة جعيتا، والمدينة الرياضية، ومهرجان بعلبك. وبلغت الإصدارات رقمها القياسي في عهد الرئيس فؤاد شهاب: 70 طابعاً تغطي جميع المواضيع بما فيها صاروخ الأرز، الذي أطلقه طلاب كلية هايكازيان. وفي عهد شارل حلو طابع عن زيارة البابا بولس السادس، وآخر عن فخر الدين الثاني، وطوابع عن أسماك وثديّيات لبنان. أما أيام الرئيس سليمان فرنجيه، فقد تمّ التركيز على الوجوه ومنها لينين في مئويته، وحسن كامل الصباح، وجبران خليل جبران، والرسّامون شارل قرم وقيصر الجميل ومصطفى فرّوخ وعمر الأنسي، وملكة جمال الكون جورجينا رزق، التي تمثّل في "القاموس" المرأة اللبنانية، ستّ الحسن والستّ بدور وستّ الستّات. جاء كتاب فرنسا ورحّالتها كما خلف نداء من حورية ساحرة. لكن نجار يعثر على زيارتين قام بهما كبير مسرحيي الإنكليزية، الإيرلندي الساخر جورج برنارد شو وزوجته: الأولى العام 1922 والثانية 1931. وعندما أجرت معه صحيفة "الحديث" الحلبية مقابلة حول دوافع الرحلة قال: "من أجل خلوة جميلة مع التاريخ". ولكن أليس من علل في هذا الغناء المتوسطي؟ أُف. لا تسأل. لكن هذا المجلد ليس مكانها، لذلك، ينبّهك العنوان أنه قاموس الحب. لا غير. "تدوين الجمالات، كأنما لبنان لم يمر بالحروب، ولا مرّت به، ولم تنخره الأمم، ولم تفرِغه الهجرة المسمومة. ولكن حتى هذا الاستنزاف، يجد له نجار نهاية سعيدة، كما في الأفلام الرومانسية. ألم تفضِ الهجرة الكبرى إلى أن يصبح كارلوس سليم أغنى رجل في العالم. وأين؟... في إحدى أفقر دول العالم. عَبَرَ نصف أهل المكسيك الحدود إلى الولايات المتحدة من أجل عمل، أو لقمة. وظلّ ابن جزين، حيث وُلد، يصنع ثروة تتجاوز ثروة بيل غيتس، الذي صنعها في وطن الرأسمالية. كلاهما في المعلوماتية: الأميركي اخترعها، واللبناني باعها. عادة قديمة. حتى العلّة الأم، الطائفية، يضعها نجار في إطار طرائفي. ينقل عن الخبير بول فان زيلاند، وهو رئيس وزراء بلجيكي سابق، وقد دُعي لتنظيم الاقتصاد، فقال: "كيف يمكن أن تُصلح اقتصاد بلد حتى ثماره لها طائفة، التفاح ماروني، العريش كاثوليكي، الزيتون أرثوذكسي، البرتقال سني، التبغ شيعي، والتين درزي"؟ في حرف الدال يصل نجار إلى الدروز، العقّال الذين سحروا بصوفيّتهم الغامضة، رحّالة الغرب وكتّابه. موحّدون ولكن بتقديم العقل. مسلمون ولكن يؤمنون بالتقمُّص. منفتحون على الأديان ومنغلقون في ديانتهم، ولذا، ظلّوا أقليّة، قليلة التوالُد، في عالم يؤمن بتعدّد الزوجات وشرعة الخصب. طائفة وُلدت في القرن العاشر في الاضطهاد والحذر. هنا يقدّم ألكسندر نجار نظرية حول التاريخ الدرزي في لبنان، لا أعرف عنها شيئاً، ولا أعرف إن كانت شائعة. كنّا نعرف من التاريخ المَحكي في منطقة جزين، أن المدينة نفسها وجوارها، كانا مُلكاً للدروز. وكان شاعرنا بولس سلامة يروي أن قريته "بتدّين اللقش" كانت مُلكاً للدروز (آل هرموش)، وقد وهبوها لرهبان دير مشموشة، الذين كان أهل بتدّين مُرابعين عندهم، ثم اشتروا منهم الأملاك شيئاً فشيئاً. وكان والد بولس سلامة أول من تملّك جلاً، بنى عليه بيته، ولا يزال يُسمى إلى الآن "جلّ المُلل". نظرية نجار أن الدروز الحذرين من مواجهة السنّة والشيعة لهم، فكَّروا في إقامة "منطقة عازلة "ولا ندري كم كان ذلك صحيحاً في القرن التاسع عشر، لكن هذه المنطقة الممتدّة، هي أطراف صيدا، تقع بين ثلاثة أُسر وطنية، شيعة وسنّة ومداخل الشوف ومطلاّته. في "من أجل لبنان" الذي وضعه كمال جنبلاط بالفرنسية، التي كتب بها أيضاً شعره الصوفي والروحانيات النيرفانية، يقول "إن الدروز لعبوا عبر التاريخ دوراً أكبر بكثير من حجمهم النسبي". ويقول نجار إن أكبر دليل هو الدور الذي يؤدّيه وليد جنبلاط بين 8 و14 آذار. الحقيقة أن النماذج المتجاوزة النسبية العددية تعود إلى أسماء باهرة في لبنان وبلاد العرب، بينها اسم نظيرة جنبلاط، السيدة الشديدة المحافظة في عالم بالغ المحافظة. ومع ذلك قادت الستّ نظيرة الطائفة في خِضمّ تحوّلات كبرى. ويروي زائر أميركي (أو بريطاني) أنه شاهد في ساحة قصر المختارة الجنرال ويغان، قائد الجيوش الفرنسية، ينحني للتحدّث مع طفل يرتدي فرِحاً بزة عسكرية. وكان اسم الطفل كمال جنبلاط. ما بين سلطان باشا الأطرش، الذي قاد "الثورة العربية"، وكمال جنبلاط، الذي قاد "الحركة الوطنية"، تبدو نظرية النسبية غير صحيحة دائماً. ليست صورة اللبناني غنائيّة دائماً. ينقلنا القاموس إلى الروائي البرازيلي خورخي أمادو لكي نتعرَّف على بعض أبطاله: "توركو" وسوريون ولبنانيون. ذوو شوارب كثّة وغليظة مثل غوستاف فلوبير، الذي سمّيناه هنا "أبو شنب". ولا ينسى أمادو العلامة الفارقة الأخرى، الأنف المعقوف. وأما "العلامة التجارية"، فإن اللبناني مستعدّ أن يفعل أي شيء من أجل المال. ربما في مرحلة تالية يضم ألكسندر نجار إلى قاموسه من لم يتّسع له الجزء الأول: فؤاد غبريال نفاع، إلى جانب جورج شحادة. وعبدالله العلايلي. وسهيل إدريس الذي نقل "الحي اللاتيني"، إلى شارع المعرض. وبيتر مدوّر الذي فاز بنوبل الطب العام 1960، ودلفين سيريغ التي ملأت المسرح والسينما في فرنسا، وفاطمة (روز) اليوسف، أميرة المسرح والصحافة في مصر، ومؤسّسو الصحافة السياسية والاقتصادية والتاريخية والعلمية في مصر. ما أكثر مُبدعيه، وما أقلّ صدّيقيه *نقلاً عن "النهار"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه