في صورة معبرة عن تملّل دول العالم من هيمنة الدولار في المعاملات الدوليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومؤتمر “بريتن وودز”، وسعيهم الى فكّ التبعية السياسية والاقتصادية الامريكيه وارتباط عملاتهم بعيداً عن الوصاية الأمريكية التي عانت من الابتزازات والاشتراطات، تناقلت وسائل الإعلام ولادة حدثاً اقتصاديا مدوياً ولامثيل له منذ فترة انتها الحرب العالمية الثانية، وربما سيكون بداية النهاية للدور القيادي للدولار في العالم وبالتالي سرعة افول اكبر اقتصاديات العالم- اي الولايات المتحدة، وتقوقعها على نفسها كما كانت ماقبل الحرب العالمية الاولى.
هذا المولود الجديد والذي دأبت امريكا على وأده في السابق، هو التوجه وبشكل جماعي للقضاء على هيمنة الدولار دولياً واستبداله بعملات اخرى من خلال أتفاق اتحاد البريكس الذي يضم الدول الكبرى من خارج اوربا وامريكا وهم: روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، والذين قرروا وبهدوء واتزان بأن تدعم مستويات التجارة الدولية فيما بين دولهم، من خلال استخدام عملاتها الوطنية في تسوية المعاملات التجارية فيما بينها بدلا من الدولار الامريكي، كما أن دولاً نفطية كبرى هي الأخرى رحبت بذلك التوجه وانخرطت ولأول مرة في اتفاقيات بشأن «خطة استبدال الدولار» في المعاملات النفطية بالعملات المحلية فيما بينها وبين دول "البريكس".
والحقيقة ان تململ العالم من الدولار بسبب عدم الثقة في النوايا والالتزامات الامريكيه كان بين شد وجذب منذ اواسط الستينيات من القرن المنصرم، ولكنه وصل ذروته منذ الأزمة المالية عام 2008م، بل انه ولأول مرة كثير من المصارف المركزية بدأت تشير الى وجوب أن يُستبدل الدولار بمخزون عالمي جديد من عملات اكثر ميثاقية وتدار بمؤسسات عالمية. ومن هذه المنطلقات، وجدنا أنه لابد أن نسلط الضوء في هذا المقال على تداعيات تلك التوجهات على هذه العملة التي حازت ثقة عالمية عالية على مدى نحو نصف قرن، ومدى استمراريتها في مايعرف الأن بالنظام العالمي الجديد وفك العالم ارتباطه بتلك العملة المهيمنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الى وقتنا الحالي.
مقومات الثقة العالمية في الدولار: الخدعة والقوة
يعتبر الدولار عبر السنين القاعدة الصلبة للازدهار الاقتصادي في الولايات المتحدة وفي نفس الوقت مصدر الثقة العالمية العالية في الاقتصاد الأمريكي وقيادتها العالمية. ويتبادر السؤال عن الكيفية التي وصل اليها الدولار الى هذه المنزلة العالمية. وللجواب على هذا السؤال المهم لابد الى الرجوع الى البداية وهي اتفاقية ما يعرف بـ "بريتون وودز" التي اعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرتاً عام 1944م.
وبموجب اتفاقية بريتون وودز لعام 1944م، قرر تحالفا من الدول المنتصرة في الحرب بزعامة الولايات المتحدة، بأن يضعوا أساس نظام مالي وإقتصادي عالمي، وفرضت الولايات المتحدة، كونها الدولة الوحيدة المنتصره بلا منافس وبحيلة انطلت على العالم كله وهو إقتاعه بأن ورقة دولارها هو مجرد سند لذهب خالص تلتزم بدفعه عند الطلب، وذلك بالتزام ربط الدولار بطريقة غير مباشرة بالذهب عن طريق سعر ثابت وهو 35 دولار أمريكي للأونصة الواحدة من الذهب.
وبالتالي أصبحت عملة امريكا الورقية (الدولار) ذهباً خالصاً.
وبإعلان امريكا تلك التسعير هذه جعلت الدول تضع في خزائنها الدولارات بدل من الذهب، ومن ثم أصبح ارتباط العملات العالمية والأسعار مباشرة بالدولار، كما لو أنها مرتبطة مباشرة بالذهب، ومنذ ذلك الحين والدولار الورقي اعتبر كسند تلتزم امريكا سداد مقابله ذهب عند الطلب، واصبح الدولار العملة العالميةً المنافسة للذهب، من حيث تسديد المدفوعات والتبادلات التجارية، للثلاثين سنه التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، ولكن بدأت الشكوك في في مدى قدرة امريكا على الوفاء بالتزاماتها بصرف دولاراتها بذهب بعد عشر سنوات فقط من الاتفاقية وبدأ ينكشف خداع امريكا في اواسط الستينيات وذلك مع إنتخاب ليندون جونسون سنة 1964 رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية وسياساته التصعيديه لحرب فيتنام والتوسع في البرامج الإجتماعية والإعفائات الضريبية فيما يعرف بـ"المسدس والزبدة".
وتزايد عجز الموازنة بشكل كبير وبالتالي زيادة في الإنفاق الذي يعتبر نقطة تحول حقيقية من السياسة الإقتصادية الناجحة والتي إتبعتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولكن لأسباب متعلقة بمراكمة الولايات المتحدة لنمو إقتصادي داخلي ونفوذ سياسي خارجي لفترة طويلة مع التصعيد في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي فإن الأثار السلبية لتلك السياسة لم تظهر إلا بعد فترة زمنية طويلة.
وبلغ ذروتها عام 1971م حينما اعلن نيكسون للعالم اجمع عدم مقدرة امريكا على صرف دولاراتها بالذهب، وألغى نيكسون رسمياً نظام الصرف بالذهب، وعدم التزامها على نسبة السعر الذهبي للدولار، أي 35 دولاراً للأونصة، كما نصت عليه اتفاقية بريتون وودز.
واستمرت الولايات المتحدة تدافع عن عملتها حتى بالقوة العسكرية وتغيير الأنظمة ان لزم الامر، واجبرت دول العالم وخاصتاً الدول المنتجة للمواد الأولية بإلاستمرار على التعامل بالدولار الورقي المكشوف.
واستمرت أسعار المواد الأولية مرتبطة بالدولار ارتباطاً وثيقيا من حيث القيمة، وليس ارتباطاً اسمياً فقط من حيث الدفع، وكان لإنخفاض قيمة (الدولار) يؤدي تلقائياً إلى انخفاض المواد الأولية من بترول وغيرها، فبينما استمر الدولار على وضعه السابق لتسديد المدفوعات الدولية، مع كونه عملة أميركية محلية تخضع لآلية التضخم النقدي الداخلية أعطى الحق للولايات المتحدة بتسعيرة المواد الاولية على كوكب الأرض من خلال آلية التضخم النقدي الداخلية، التي تصبح تلقائياً آلية تضخم عالمي وانتشرت مقولة انه في حالة عطست امريكا فإن العالم يصاب بالرشح وذلك في وصف لتأثير امريكا على العالم اجمع.
وبإستطاعة امريكا منذ ذلك الوقت بتحديد قيمة المواد الأولية التي تدفع بالدولار، وبالفعل فمنذ ذلك الحين والسلع الاولية في انخفاض مستمر نتيجة وجود التضخم النقدي الأميركي نظرا لأن اوقية الذهب في عام 1970 ب 35 دولار بينما تبلغ قيمة اونصة الذهب في الوقت الحاضر الف وثلاثمائة دولار.
هذه الأمور مجتمعه هي السر وراء قوة الدولار وتبوئه أهم مركزاً عالمياً بين العملات الدولية. فالاقتصاد الأمريكي قائم على طبع مئات المليارات من العملة المعروفة بالدولارات، والتي لا تعتمد على أي غطاء كالذهب أو الفضة أو على أي من الاحتياطيات النقدية أو المعدنية المتعارف عليها منذ فك ارتباط الدولار عن الذهب في في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وأصبح الدولار يعتمد وبطريقة غير مباشرة على القوة الامريكية والابتزاز العالمي من جهة والثقة الدولية بالاقتصاد الأمريكي من جهة أخرى، والتي بدورها، أي هذه الثقة العالمية، جعلت من الدولار العملة المستخدمة في التجارة الدولية وحتى في المعاملات الداخلية لكثير من البلدان وذلك من الإستمرار في ربط صرف العملة الداخلية لكثير من البلدان بالدولار. وإكمالاً لدائرة قوة ومركزية الدولار التراكمية، فالدولار الذي تستخدمه أمريكا والدول الأخرى كعملة في التجارة الدولية، تتم على ضوئه إعادة تحويل المنتجات والسلع والثروات إلى احتياطيات مالية بالدولار حجمها يتجاوز ثمانية تريليونات دولار، وموظفة بشكل كبير في استثمارات في الاقتصاد الأمريكي وأسواقه الداخلية في سندات الخزانة الأمريكية وغيرها من المدّخرات بالدولار كالأسهم الأمريكية والعقارات وما شابهه. من ذلك نرى أن اعتماد الدولار في التجارة والمعاملات الدولية يحقق لأمريكا دور الخزانة العالمية، التي تطبع الدولارات بغطاء لا تملكه من احتياطيات استثمارية أجنبية، ولكن ما زال يحظى بالقبول العالمي.
المعاملات التجارية والاحتياطي العالمي
وبهذه الأسباب، أي اعتماد الدولار في التعاملات الدولية، وقبول العالم بالدولار الأمريكي كعملة رئيسة في معاملاتها التجارية، فإن أكثر من ثلثي مبادلات العملات العالمية يتم حالياً عبر الدولار، ويتحكم بها الدولار، الذي يمثل ثلثي الاحتياطيات المالية العالمية. مما يجعل من الولايات المتحدة البنك المركزي الدولي، وشيكاته هي الدولار والتي تتحكم في سعر صرفها الولايات المتحدة. وعلى ضوء تدني سعر صرف الدولار والأزمات المالية المتعاقبة يثور سؤال منطقي ويخصنا نحن بطريقة مباشرة كأكبر دولة منتجة ومصدرة للنفط، وسنحاول الإجابة عنه في هذا المقال وهو مدى الأهمية الاقتصادية العالمية في الاستقلال عن الدولار وتحييده أو حتى إقصائه كعملة وحيدة في التعاملات النفطية.
التخلي عن شعار «دولار قوي»
على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي لا يزال أقوى اقتصاد في العالم وأقوى من الاقتصاد الأوروبي والاقتصاد الياباني، إلا أن الأزمة المالية العالمية والتي كان مصدرها الولايات المتحدة ما زالت تداعياتها سلبية وتراكمية على الاقتصاد الأمريكي وعلى عملتها النقدية، أي الدولار، والتي التزم الساسة الأمريكيون عبر السنين بالحفاظ على قوتها ورفع شعار «دولار قوي»، قد تغير الآونة الأخيرة؛ فالدولار الآن يواجه ليس فقط عدم استقرار أمام عدد من العملات العالمية، بل أكثر من ذلك وهو التحكم التسلطي الامريكي في تداولاته العالمية.
وبدأت الشكوك تساور دول العالم الكبرى عن أن الولايات المتحدة غير قادرة على استعادة قوتها المالية السابقة وتصحيح الخلل في ميزانها التجاري مع العالم وإعادة الثقة باقتصادها الا من خلال التحكم والسيطرة على عملتها والتي بدورها تنقص الثقة العالمية في التداول بتلك العملة مما يتسبب في افول قدرة الولايات المتحدة على التنافس العالمي.
الخاسر الحقيقي في لعبة الدولار
لا ريب في أن الاستمرار على البقاء في استخدام الدولار عالمياً رغم ما تعانيه اقتصاديات أمريكا، ورغم سياسة التحكم المتصاعد الامريكي، لا شك بأنه يحقق مكاسب لا تحصى للاقتصاد الأمريكي، ولكن يثور تساؤل منطقي وهو مَن الذي يدفع تلك المكاسب؟
أو بمعنى آخر مَن الخاسر الفعلي من جراء تلك الإجراءات التعسفية الأمريكية وضعف الاقتصاد الأمريكي المتهالك؟
والجواب الجلي الواضح: هو في الدرجة الأولى الدول المنتجة والمصدرة للنفط التي لازالت تعتمد على الدولار في معاملاتها الاقتصادية والنفطية وما زالت تصر على تمسكها بالدولار رغم الكبوات والحالات السيئة والسياسات التعسفية لتدول الدولار والاقتصاد الأمريكي المتهالك.
فالتجارة الدولية في بضائع مثل النفط والمعادن والمحاصيل كلها تتم بالدولار الذي لا يعتمد على أي غطاء أو احتياطي، بل إن اعتماد الدولار في التجارة الدولية وبالأخص التعاملات النفطية يحقق لأمريكا ودولارها تغطية احتياطية من نفط دول الأوبك التي لا تملكه الحكومة الأمريكية ويحقق لها دور الخزانة العالمية أو البنك المركزي للعالم.
وعليه فإن أمريكا تطبع عملات تحظى بقبول وثقة العالم وتلتزم بالدفع مقابل هذه العملات، ولكن وفي الآونة الأخيرة، بسعر هي تقرره وبسياسة تعسفية. وبهذه الأسباب، أي اعتماد الدولار في التعاملات النفطية وقبول أو تمسك الدول المنتجة للنفط بالدولار الأمريكي كعملة رئيسة في معاملاتها النفطية وكذلك في عملاتها المحلية، على الرغم من التراجعات التي مني بها الاقتصاد الأمريكي والعملة الأمريكية في الآونة الأخيرة وسياستها النقدية التعسفية، تجعل من أمريكا في الواقع الآمر والناهي والمقرر لأسعار النفط القائمة على الدولار والذي تتم إعادته، أي تحويل «الدولارات النفطية»، من دول الأوبك إلى أمريكا في شكل استثمارات في الولايات المتحدة بدأت الشكوك حول استرجاعها، بل وبدأت امريكا تلوح بتجميدها ومصادرتها. وفي ظل الطلب العالمي على النفط ودخول مستهلكين دوليين جدد يفوق استهلاكهم استهلاك الولايات المتحدة كالصين والهند مثلاً، ودخول منتجين كبار كروسيا الفيدراليه وفي ضل تراجع الدولار المستمر وما اثير في تدني الثقة في السياسة والاقتصاد الامريكي، أديا في حقيقة الأمر إلى تدهور أسعار النفط وعوائده على مالكي هذه السلعة الاستراتيجية الناضبة نظراً لارتباطه بالدولار.
هل هناك عواقب وخيمة؟
التاريخ يوضح لنا أن الانفراد بالمواقف ولو كانت صحيحة من الممكن أن تنتج عواقب وخيمة. فأي تغيير للسياسة النقدية العالمية اي الدولار يعتبر اعتداء على أقدس المقدسات لدى العالم المعاصر ألا وهو مصالح امريكا ومايدور معها في فلك المنظومة البنكية العالمية. وسندرج ثلاث وقائع تاريخية أدت الى الاجهاض الامريكي لاي محاولة للتخلي عن الدولار.
فالتاريخ يذكر أن أول رئيس للجمهورية الخامسة لفرنسا والاب الروحي لها، الرئيس السابق الجنرال شارل ديغول هو اول من أعلن الحرب على العملات الورقية وخصوصاً الدولار منذ منتصف الستينات من القرن المنصرم وكان يطالب بشراسة بالعودة إلى اعتماد الذهب كقاعدة في المعاملات الدولية بعيداً عن الدولار المشكوك فيه، وكان يردد طرفة تقول أن لوحة من لوحات الفنان روفائيل قد تم عرضها للبيع فدفع الروسي مقابلها ذهبا بينما دفع العربي مقابلها نفطا ولم يحصلا عليها واصبحت من نصيب الأمريكي الذي دفع حزمة ورقية بقيمة عشرة آلاف دولار فكانت من نصيبه، بالرغم من أن هذا المبلغ لا يتعدى في حقيقته قيمة 3 دولارات نطراً لأن القيمة الحقيقية لطباعة العملة الأمريكية من فئة 100 دولار تساوي ثلاثة سنتات فقط، وكان جاداً في إعلانه بأن فرنسا على وشك أن تتخلى عن تداول الأوراق المالية وإعادة تعاملها في حساباتها الدولية إلى التعامل بالذهب.
وهذا الحدث يعتبر من جملة الأحداث التي تسببت في إنهاء رئاسته واجباره على الاستقالة من منصبه. ففي مساء يوم 28 أبريل عام 1969 أعلن ديجول تنحيه عن منصبه ثم وافته المنية بعد عام ودفن جثمانه مع طموحاته بإعادة تعامل فرنسا في حساباتها الدولية إلى التعامل بالذهب وذكر بعض من تلك الاحداث في مذكراته التي دونها في منفاه قبيل مماته.
كما أن الحدث الاكثر معاصرة هو إقدام صدام حسين في الربع الأخير من عام 2000م على التوقف المفاجئ بالتعامل بالدولار الأمريكي في التجارة الخارجية واعتماد اليورو اعتبارا من الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2000م فيما يعرف بالنفط مقابل الغذاء، كان خطوة سياسية خطيرة على امريكا، إلا أن مردودها الاقتصادي كان إيجابياً وملموساً فلقد حسّنت موارد العراق بفضل ارتفاع قيمة اليورو مقابل الدولار.
لقد كان اعتماد العراق عملة «اليورو» الأوروبية في تعاملاته النفطية الدولية أبلغ الأثر في الاقتصاديات الخاصة بأوضاع الطاقة والنفط العالمية لا يضاهيه في الحدث التاريخي إلا موجة تأميم النفط في منتصف الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي. ولكن هيهات أن يستمر ذلك الحدث الذي يعد الأعظم وسلاحا فعالا وخطيرا في القضاء على هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.
فلقد قامت سلطات الاحتلال الأمريكية بإيقاف تعاملات العراق النفطية باليورو في الأسواق العالمية والعودة بها إلى الدولار في الأسبوع الأول من الغزو وبعد الاستيلاء المباشر على منابع النفط العراقي وبدأ التمثيل بكوفي عنان الذي وافق على قرار العراق باعتماد اليورو بدل الدولار عام 2000م وتلبيسه التهم في ماعرف باتفاقية النفط مقابل الغذاء والدواء.
كما أن الزعيم معمر القذافي هو الآخر عجل بمنيته حينما أعاد الكرة داعياً الى إنهاء إطعام "الدجاليين الورقيين" وذلك بالابتعاد عن الدولار في الحسابات الدولية مطالباً الدول العربية والإفريقية إلى التخلي عن التعامل بالدولار وإلى اعتماد عملة موحدة مبنية على الدينار الذهبي.
ونظرا لتردد الآخرين له فلقد شرع على إصدار العملة الجديدة منفردا ومعتمدا بذلك على الإحتياطي الذهبي الليبي فقط مما اثار حفيظة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وشكلت لديهم ردود فعل سلبية جدا ولكنه بقي صامدا إلى أن تسارعت الأحداث واعلنت الحرب على ليبيا تحت غطاء حماية حقوق الإنسان الليبي ومحاولة انتزاع النفط من الزعيم القذافي واعدامه بقصف طائرات الناتو.
تلك التجارب كانت جديرة بالدراسة والتمعن والتكيس من الوجهة الاقتصادية البحتة والنظر في مدى الحاجة الآن إلى اعتماد الدول المنتجة والمصدرة للبترول كمجموعة بـ «اليورو» كعملة بديلة في التعاملات النفطية عن الدولار الذي لا يزال مستمراً في تدني قيمته. فمن الوجهة الاقتصادية البحتة، فالعراق خسر من الموارد النفطية الكثير من المليارات منذ أعيد قسراً إلى حظيرة الدولار. وبالرغم أن تغيير الدولار بسلة من العملات العالمية يعني بداية نهاية الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم، ولربما يتسبب في استمرار ضعف اقتصادها داخلياً بل وربما انهيارها.
الخطوات المستقبلية "أهمية التدرج والابقاء على خطوط التراجع"
إن من أهم صفات الاقتصاد الدولي البراجماتية ومسايرة الواقع وعدم القفز فوق المعطيات الدولية. وعدم التصعيد ومعاداة أمريكا بوجه الخصوص. ولكن في الوقت نفسه يجب أن نكون واعين على أن النفط هو المحرك الرئيس في الصناعة الحديثة، ويعد حاليا أهم المحركات في اقتصاديات الدول مهما حاول الأخرون من مقولات غير ذلك.
من هنا نرى طرح موضوع استراتيجية تسعيرية للنفط وإحياء مشروع سلة العملات أو ببساطة البدائل المتاحة للتسعيرة من احدى العملات العالمية او لسلة من العملات المعتمدة لدى الصندوق النقد الدولي SDF إلى جانب العملات العالمية اي الدولار واليورو والين والجنيه الإسترليني، والذي يجب أن يكون مستنداً إلى واقع النفط نفسه ويكون تعاملنا معه بقدر كبير من التبصر والدراية والحكمة والاستقلالية وذلك للتعرف على متغيراته ولاستيعاب معطياته، ومن البدهي ونحن نملك أكبر احتياطي في العالم أو ربع الاحتياطي العالمي المؤكد، يقدر بـأكثر من 261 مليار برميل، ونملك ثالت أكبر احتياطي غاز في الشرق الأوسط يقدر بـ 231 trillion cubic feet وأكبر منتج ومصدر للنفط، فإن التسعيرة النفطية والقرارات التي تتخذ في شؤون النفط هي قرارات يجب أن يكون مضمونها يتناسب مع المنفعة الاقتصادية والاجتماعية لنا كدولة منتجة مع تعظيم دالة النمو الاقتصادي تحت المحددات المعروفة للمصدرين في تأمين حقهم من السوق ومكانتهم في الاحتياطي النفطي والعالمي وفائدته من العملية الإنتاجية التي يقوم بها تحت ظروف المحددات الجيولوجية والاقتصادية للاحتياطيات النفطية.
فالإحصائيات توضح أن السوق النفطية العالمية تواجه مستهلكين دوليين جدداً ربما يفوق استهلاكهم الولايات المتحدة كالصين والهند إضافة إلى اليابان وكوريا والدول الأوروبية. لذا فالقرارات المتعلقة بالنفط وتسعيرته يجب ألا تنصب فقط على قرارات تتمخض عن ردود أفعال أو عن نتائج السوق العالمية التنافسية التي تتحكم فيها الظروف العالمية من حرب أو سلم أو نمو أو ركود اقتصادي أو مما تتحكم فيها الدول الصناعية الكبرى المستهلكة للنفط سواء أكان ذلك بالنية أم بالنتيجة كتذبذب سعر صرف الدولار أو كالأزمات المالية المتعاقبه على امريكا ودولارها المتهالك، وعليه فمن الواجب علينا تمييز هذه الثروة وعائداتها عن مثلا الإنتاج الزراعي المتجدد أو الصناعي القائم على أساس تراكمي. وربما يتساءل أحدنا، وهو محق في ذلك، أنه إذا اتبعنا هذا المنظور الشمولي للنفط مع الأخذ بالتزاماتنا الدولية كأكبر دولة منتجة ومصدرة للنفط فلربما ينتج عنه تعارض في مصالح طرفي المعادلة المنتج والمستهلك؟
ولكنه معروف أن التعارض قائم وأزلي لا يمكن إزالته في سوق المزادات الاقتصادية والسياسية التي تتبعها الدول العظمى مع باقي دول العالم صغيرة وكبيرة. ولكن من الممكن تخفيض حدته وذلك بالتنسيق مع الدول الكبرى التي تعاني مشكلات ناجمة عن ارتباطها بالدولار وبالاقتصاد الأمريكي.
ويتطلب الواقع الحالي من الدول المنتجة والمصدرة للنفط جميعاً التعاون على المستوى الدولي مع الدول الأخرى كروسيا والصين واليابان والاتحاد الأوروبي وباقي دول العالم بالتعامل مع الدولار بواقعية وبعمل اقتصادي عقلاني وذي نظرة استراتيجية تسعيرية واضحة بدلا من المصادمات مع هذا أو ذاك. ولربما استراتيجية عقلانية باستبدال الدولار بمخزون عالمي جديد من سلة من العملات العالمية.
المعطيات الحالية والواقع السياسي:
الواقع يوضح أن استيرادات دول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان والهند أكثر أضعاف المرات من استيرادات الولايات المتحدة، ونسبة استيرادات دول منطقة الشرق الأوسط من دول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان والهند يعادل أضعاف أضعاف استيراداتها من أمريكا. وموضوع تأمين تجهيزات الطاقة يحتل المرتبة الأولى في أولويات الأمن الأوروبي والصين والهند.
إن دخول مستهلكين دوليين جدد على الساحة الدولية جعل مستوى استهلاك الولايات المتحدة في المرتبة الرابعة أو الخامسة دولياً. إن الاستمرار في التعامل بالدولار في المعاملات النفطية وتدني أسعاره يلغي هامش المردود الفعلي لمصدري النفط، كما أن تزايد حاجات دول الاقتصادات الجديدة في شرق أوروبا للطاقة، وتعاظم استهلاك الصين والهند للنفط، يطرح على صانعي القرار، موقفاً مغايراً تماماً عما كان في الماضي.
وإن أول خطوة في الاستقلال عن الدولار في التسعيرة النفطية هو البدء الفوري في إزالة عقبة التقنية أمام اعتماد سلة من العملات كتسعيرة للنفط في سوق النفط العالمية البديلة والعمل على تأسيس مؤشر للعملات العالمية «foreign Currency marker» والبدء فيتأسيس نظام لأسعار الصرف المباشرة بين الدول اي "اليورو" مع اوربا و"اليوان" الصيني مع الصينيين و"الين" مع اليابانيين و"الجنية الاسترليني" مع البريطانيين بالاضافة الى "الدولار" مع الامريكيين للمتاجرة بالنفط والسلع، في بورصة نفطية شرق أوسطية، حيث إن مؤشرات النفط العالمية الثلاثة «ويست تكساس»، و»برنت»، و»دبي» هي الآن قائمة على الدولار Dollar Marker فقط.
وعليه فيستحسن بالتدرج أولا في تنويع محافظنا العالمية بعملات غير الدولار، ومن ثم البدء في اعتماد العملات العالمية في الصادرات النفطية، ومن ثم نلتفت للصادرات النفطية إلى أوربا باعتماد «اليورو» ويلحق بها اليابان «بالين»، و"اليوان" الصيني مع الصين ويستحسن البدء فوراً فيتأسيس نظام لأسعار الصرف المباشرة بين عملتي الريال السعودي واليوان الصيني التي تعد أكبر شريك تجاري للسعودية العام الماضي، بحجم تبادل تجاري 49.2 مليار دولار، حيث بلغت صادرات السعودية للصين 24.55 مليار دولار في 2015، مقابل واردات للمملكة من الصين بـ24.64 مليار دولار. وما يشكل 13% من العلاقات التجارية بين السعودية ودول العالم في نفس الفترة.
فالصين تستورد ما يتجاوز 1.1 مليون برميل يوميا،او بنسبة تقترب من 15% من صادرات النفط السعودية للعالم إجمالا. كما أنه يستحسن بأن يؤسس «بورصة الشرق الأوسط للنفط» واستقطاب الخبرات الفنية والاقتصادية العالمية للعمل فيها واعتماد بعض العملات العالمية في تعاملاتها، إلى أن يتم إيجاد سلة من العملات أو عملة تعتمد على مخزون عالمي جديد من العملات يدار بمؤسسات عالمية.
*abanamay@gmail.com
مقال في الصميم....دائما متألق ومبدع يا دكتور راشد