2015-10-10 

رأي آخر في مأزق السياسة المصرية

فهمي هويدي

لو أن الجبهة الداخلية في مصر كانت أكثر تماسكاً واستقراراً، لتوقعنا نجاحاً أكثر للمؤتمر الاقتصادي المزمَع عقده في بداية الأسبوع المقبل. (1) إذ لا يشك أحد في أن فرص الاستثمار في مصر لا حدود لها. كما أن احتمالات الانطلاق والنهوض في المستقبل أيضاً لا حدود لها، لكن المستثمر مهما بلغت درجة حماسه ليس مستعداً للمغامرة. ولابد أن يتردد ويراجع نفسه ألف مرة قبل أن يدخل بلداً يخوض حرباً ضد الإرهاب، ويواجه أزمة سياسية حادة لا تلوح في الأفق احتمالات حلها. إذ في حين تشترك مدرعات القوات المسلحة مع قوات الشرطة في حماية الأماكن العامة، فإنه لا يكاد يمر يوم من دون أن تسمع أصوات الانفجارات في مختلف أنحاء البلاد. وهو ما يعني أن مصر لا تعاني من مشكلة الاستقطاب السياسي فحسب، ولكنها تعاني أيضا من عدم الاستقرار الأمني الذي يبلغ ذروته في سيناء، وتتردّد أصداؤه الخائبة في بقية المحافظات، ممثلة في العبوات الناسفة التي أصبحت تستهدف الأبرياء وتشيع الخوف والذعر في مختلف الأوساط. ما أفهمه أن تلك أجواء عارضة صحيح، لكنها طاردة للاستثمار وليست جاذبة له، بل أزعم أنها معطلة للتنمية بوجه عام. وأي متابع لأداء الأنشطة الإنتاجية في مصر يدرك ذلك جيداً، الأمر الذي يعني أن استقرار الأمن شرط أساسي لدوران عجلة الإنتاج، ولأن الاضطراب والتوتر الأمني من تداعيات الأزمة السياسية التي تمرّ بها البلاد، فإن فتح ذلك الملف بشجاعة ومسؤولية أصبح ضرورة ملحّة. إحدى المشكلات الأساسية التي تواجه هذه المهمة تتمثل في ظاهرة إنكار الأزمة في بعض دوائر النخبة والاكتفاء برفع شعار «كله تمام» الذي جر علينا بلايا بلا حدود. وكثيراً ما غطينا به العجز وسترنا به الكذب، وحولناه إلى مخدر تولى السياسيون والإعلاميون تغييب الناس به وخداعهم. بسبب من ذلك فإن الخطوة الأولى في التعامل المسؤول الذي أدعو إليه تتمثل في الاعتراف بوجود الأزمة. لأنه بغير ذلك لن يجدي أي كلام ولا أمل ينتظر من أي علاج. (2) كثيرون يختزلون الأزمة المصرية في الصراع الحاصل بين السلطة و «الإخوان»، وذلك تقييم لا يخلو من تبسيط، لأن هذا الصراع جزء من الأزمة وليس جوهرها. الدليل على ذلك أن «الإخوان» الآن خارج المشهد السياسي، لكن الأزمة موجودة ولها قرائنها العديدة المتمثلة في الإجراءات المقيدة للحريات (قانون التظاهر والكيانات الإرهابية واستهداف منظمات المجتمع المدني) وتلك المخلّة بقواعد العدالة (الاستغناء عن الشهود في القضايا والتوسّع في الحبس الاحتياطي والقضاء العسكري) إضافة شيوع انتهاكات حقوق الإنسان وانتشار التعذيب المؤدي إلى القتل في أقسام الشرطة وانتهاء بالتضييق على الجامعات وتعديل قانونها لتيسير فصل الأساتذة بعد إلغاء انتخاب العمداء ووقف انتخابات الاتحادات الطلابية... إزاء ذلك، فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأنها أزمة في علاقة السلطة بالمجتمع بأكثر منها أزمة في علاقة السلطة بـ «الإخوان». وإذا لاحظنا أن القرائن التي أشرت إليها تواً بمثابة فقرات وعناوين لأزمة الحرية والديموقراطية في مصر، التي كانت أهم أسباب انطلاق «ثورة 25 يناير»، فإن ذلك سيقودك إلى الخلاصة المتمثلة في أن موضوع الصراع الحقيقي هو مكتسبات «ثورة 25 يناير»، وان طرفيها الحقيقيين هما نظام ما قبل الثورة والنظام الذي تطلعت الثورة لإقامته. ولا مفر في هذا الصدد من الاعتراف بأن نظام ما قبل «ثورة يناير» سجل نقاطاً عدة لمصلحته. وهو ما لمسناه في تبرئة القضاء لرموزه وعودة أبواقه الإعلامية وسياساته الأمنية. والأهم من ذلك تغوّل السلطة المركزية وبسط سيطرتها شبه الكاملة على جميع أنشطة المجتمع ومؤسساته الرسمية والأهلية. ترتب على ذلك أن المجتمع أُلحق بالسلطة وأصبح تابعاً لها، ولم يعد مصدراً لها أو طرفاً موازياً أو ضابطاً لحركتها ومسارها. ومن مفارقات الأقدار أن الصورة التي انتهت إليها علاقة السلطة بالمجتمع بعد 4 سنوات من الثورة، أعادت إلى الأذهان الصورة التي أصبحت عليها مصر في نهاية عصر مبارك، مع اختلاف بسيط في التفاصيل والعناوين. وإذا كانت السياسة الداخلية موحية بذلك على النحو الذي ذكرت. فإن علاقات مصر الخارجية تذهب إلى مدى أبعد في الاتجاه ذاته. ذلك أن السنوات الأخيرة من حكم مبارك شهدت توتراً مماثلاً في علاقات القاهرة مع واشنطن، إلا أن التحالفات العربية التي انخرطت فيها مصر بعد الثورة وموقفها المحزن من حصار غزة ومن المقاومة الفلسطينية (الذي يحظى بحفاوة بالغة في إسرائيل)، من دلائل التراجع عن السياسات التي كانت متبعة قبل الثورة. (3) لا أحد يستطيع أن يتجاهل أو يقلل من شأن العمليات الإرهابية والتفجيرات التي تزهق الأرواح وتخطف الأبصار حيناً بعد حين. ولا سبيل إلى انكار حقيقة ان بعض الإجراءات التي اتخذت من جانب السلطة كانت من أصداء تنامي مؤشرات الإرهاب. الذي لم تتوقف تجلياته طوال العشرين شهراً الماضية، إلا أن لدينا ثلاث مشكلات مع الإرهاب، الأولى محورها الجرائم التي ترتكب في ظله والثمن الذي يدفعه المجتمع جراء ذلك. المشكلة الثانية تتمثل في تحديد مصدره أو مصادره. أما المشكلة الثالثة فتتلخص في أن الإرهاب المادي الذي تمارسه جماعات العنف يتوازى مع نوع من الإرهاب الفكري الذي تمارسه جماعات المصالح. وذلك منطوق يحتاج إلى بعض الشرح الذي أرجو أن تتسع له الصدور. لن أتوقّف أمام مشكلة وقائع الإرهاب التي يعطيها الإعلام حقها وزيادة. لكني سأنتقل مباشرة إلى المشكلة الثانية المتمثلة في مصادر الإرهاب. ذلك أن الخطاب الإعلامي ظلّ إلى عهد قريب يُنسب العمليات الإرهابية إلى مصدر واحد تمثل في عناصر جماعة «الإخوان» ومَن لفّ لفّها. واستقر ذلك في الضمير العام حتى أصبح من المسلمات والبديهيات. وبرغم أن أطرافاً أخرى دأبت على إصدار بيان أعلنت فيه مسؤوليتها عن بعض العمليات الإرهابية، إلا أن ذلك كان يتم تجاهله إعلامياً على الأقل، وظل «الإخوان» هم المتهم الأول والأوحد. آية ذلك مثلاً أن مجلس الوزراء المصري قرر في 25 كانون الأول العام 2013 اعتبار «الإخوان» جماعة إرهابية. وذكر البيان الرسمي الذي صدر بهذه المناسبة أن «مصر كلها روعت بالجريمة البشعة التي ارتكبتها جماعة الإخوان المسلمين بتفجيرها مبنى مديرية أمن الدقهلية»، إلا أن جماعة «أنصار بيت المقدس» ذكرت في بيان أصدرته بعد ذلك بيومين أنها المسؤولة عن التفجير، وبثت شريطاً تليفزيونياً للعملية التي قامت بها، وبعد ذلك بأشهر (في 20/12/2014) ذكرت جريدة «المصري اليوم» أن الانتحاري الذي قام بالعملية عمل مرشداً للأمن الوطني. ونشرت اسمه وشهرته وعنوانه في حي المطرية! بمضي الوقت، انتبهنا إلى أن العنف الحاصل تشارك فيه أطراف أخرى، كانت جماعة «أنصار بيت المقدس» في مقدّمتها. إذ حين بدأت محاكمة عناصر الجماعة في الخامس من شهر آذار الحالي، تبيّن أن الذين قدموا إلى المحاكمة من أعضائها 213 شخصاً، اتهموا بارتكاب 45 عملية إرهابية بينها اغتيالات بعض ضباط الشرطة ومحاولة اغتيال وزير الداخلية وتفجيرات طالت منشآت أمنية مثل مديريتي أمن الدقهلية والقاهرة وأخرى في جنوب سيناء. وكلها عمليات ظلت وسائل الإعلام تنسبها طوال الوقت إلى «الإخوان». أثار الانتباه أيضاً أن بعض المنابر الإعلامية وثيقة الصلة بالمؤسسة الأمنية («اليوم السابع» و «البوابة نيوز») ذكرت في السادس من شهر شباط الماضي تفصيلات مهمة عن قيادات «أنصار بيت المقدس»، وتبين أن منهم بعض الضباط المصريين الذين فصلوا من الخدمة، ومنهم مَن عمل في تخصصات دقيقة ومهمة (الصاعقة مثلاً) وقررت «البوابة نيوز» أن الذين فصلوا من الشرطة أكثر من مئة ضابط وأمين شرطة، التحقوا بتلك المنظمة الإرهابية. وللأسف فإننا لم نستطع أن نتابع التحقيقات أو المحاكمة، لأن النائب العام أصدر قراراً بحظر النشر في القضية. لأسباب متعلقة بالصراع السياسي في الأغلب، فإن الضوء ظل مسلطاً على عنف «الإخوان» من دون غيرهم، إلا أن حلول موعد المحاكمات أتاح لنا فرصة رؤية مصادر العنف بشكل أوضح. إذ أدركنا أن «الإخوان» لا يقفون وحدهم في ساحة العنف. فإلى جانب ما تقوم به عناصر الجماعة، وإضافة إلى ممارسات «أنصار بيت المقدس»، فإننا انتبهنا إلى إسهامات أخرى قامت بها جماعة «أجناد مصر»، التي لم تقصر بدورها في إصدار البيانات التي تحدثت عن العمليات التي قامت بها، والتي فهمنا أنها تأتي في المرتبة الثالثة في الترتيب بعد عمليات «الإخوان» و «أنصار بيت المقدس». كما أننا قرأنا أخيراً عن جماعات جديدة إحداها باسم «العقاب الثوري» والثانية باسم «حركة المقاومة الشعبية». لا أدعي أن ما أشرت إليه يصور حقيقة مصادر الإرهاب في مصر، لكني أزعم أنه ينبّه إلى أمرين، أحدهما تعدّد تلك المصادر والثاني أن البيئة السياسية قابلة لاستنبات وتفريخ مصادر أخرى تمثل حصاد ما تمّ زرعه خلال العشرين شهراً الماضية. وهو تحليل، إذا صحّ، فإنه يستدعي إلى الواجهة قضية علاقة السلطة بالمجتمع وضرورة تصويب وإنضاج تلك العلاقة، ولئن قيل إن كل نظام يحدد طبيعة المعارضة التي يستحقها، فإننا يجب أن نعيد النظر وندقق جيداً في ما زرعناه، كي نجني الثمار والحصاد الذي تمنيناه. (4) بقيت مشكلة الإرهاب الفكري الذي أفرزته حالة الاستقطاب الحادّ المخيّمة على الواقع المصري، وأطلقت مجموعات من كتائب الإبادة السياسية، التي ضمت عناصر من «الشبيحة» الجدد، إذا استخدمنا المصطلح الذي يعبر عن زبانية النظام في سوريا. ولأن هؤلاء يحتلّون مواقع متقدمة في وسائل الإعلام وبين قطاعات المثقفين، فإنهم أصبحوا يتربصون بأي رأي آخر في تحليل الوضع القائم. خصوصا إذا استهدف التوصل إلى أي توافق يعالج الاستقطاب والإقصاء أملاً في الانتقال بالحالة المصرية إلى طور الاحتواء والمشاركة التي تعيد إلى الصف الوطني التحامه وعافيته. ذلك أن أي مسعى من ذلك القبيل بات يستفز تلك الفئات، لمحاولة قطع الطريق عليه وإجهاضه. والسلاح التقليدي المستخدم في هذه الحالة يتمثل في المسارعة إلى التشويه والاغتيال المعنوي. أما الذريعة الجاهزة، فهي إطلاق تهمة المصالحة التي وصفها أحدهم بأنها وصفة «مسمومة»، وأصبحت تثير أعصاب كثيرين وتفقدهم توازنهم، ومن ثم صارت تستدعي حملات الهجاء الذي لا يخلو من بذاءة وإسفاف. إذ المقصود في هذه الحالة المصالحة مع «الإخوان»، التي أزعم أن المجتمع لم يعد جاهزاً لها في الوقت الراهن. وما تعرّض له المستشار طارق البشري من اتهام وتشهير تجاوز حدود اللياقة والأدب في الآونة الأخيرة يؤيد ما أدّعيه، برغم أن الرجل لم يتحدّث عن مصالحه مع «الإخوان»، ولكنه في الحوار الذي أجرته معه وكالة «الأناضول» للأنباء تحدّث عن أهمية دور الدولة المهيمنة في رأب تصدّعات المجتمع، ودعا إلى تجاوز الإقصاء والعدول عن النمط الاستبعادي في الأداء السياسي. إن الأولوية الآن ينبغي أن تعطى للمصالحة مع المجتمع وليس المصالحة مع «الإخوان»، لأجل مصر وليس لأجل المؤتمر الاقتصادي. *نقلا عن "السفير"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه