صرفت مئات المليارات على دعم المحروقات من بنزين وديزل كوقود للنقل، وبحسب التسيير الحالي فإن هذا الصرف الهائل لدعم الوقود لا يذهب فقط الى مستحقيه من ذوي الدخل المتدني والمتوسط، هذا واقع يحتاج إلى تغيير لمواكبة الحراك الحثيث نحو التحول الوطني وبالتالي تحقيق متطلبات رؤية 2030، حيث أن هذه المبالغ تصرف في دعم غير موجه، مما جعل شريحة الدخل المرتفع هي المستفيد الأول من هذه الامتيازات وفي نفس الوقت هذه الشريحة لا تعاني من غياب النقل العام! وهذا ماسيفرض استمرار نزيف المصروفات في الدعم مع استمرار الحاجة لحال يرفع الضرر عن الطبقتين المتوسطة والمتدنية.
التكلفة التي تتحملها الخزانة العامة نتيجة الدعم الحكومي للمحروقات، أسفرت عن أسعار وقود بعيدة جدا عن تكلفتها الحقيقية، ناهيك عن سعرها الحقيقي، وبالطبع فهي أقل بكثير من السعر العالمي، وبالتالي وقع هدر من هذا الجانب، منشؤه أن الوقود يستفيد منه غير المستحق وبأسعار زهيدة جدا، وهذا استنزاف للموارد واستغلال غير عادل لدعم الدولة، وهذا ما أفرز سوء كفاءة في الإنفاق، وخلق كيانات هشة، خصوصا وأن أكثر من المستفيدين من دعم الوقود هم الطبقة الغنية.
وكما يقال أحشفا وسوء كيل؟! فمن البديهي ايضا أن هذه الشريحة من (أصحاب الدخل المرتفع) هي من يقوم بتهريب هذا الوقود المدعوم إلى الخارج للاستفادة من فروقات السعر الهائلة، حيث تثبت إحدى الإحصائيات المنشورة أنه: في عام 2013 كان يتم تهريب ما متوسطه 10,000 لتر من الوقود المدعوم يوميا، ودراسة اخرى تشير إلى أن أكثر من 250 صهريج تعبر الحدود يوميا على أنها محملة بزيت الهيدروليك، ولكنها في الحقيقة محملة بوقود الديزل المدعوم.
وهذا يقع بالرغم من كل الجهود التي تبذلها المملكة لكبح جماح تهريب الديزل حيث تمكنت الجمارك السعودية من قطع الطريق أمام تهريب 8 مليون لتر من الوقود في تلك الفترة، وهذا الإنجاز تحقق على الرغم من تنوع تعدد الحيل وتنوع المسميات، والأدهى والأمر أن أغلب الكميات المهربة تذهب إلى دول عربية مجاورة كانت ليتم بيعها في الأسواق العالمية، حيث تكون الأسعار أعلى بكثير، فأصبح هناك سوق مواز (سوداء) يعتمد على تهريب الوقود المدعوم يقدر بنحو 75 مليار ريال سنوياً.
ولعل في معرفة هذا إجابة على التساؤل المطروح حول ارتفاع استهلاك الديزل، لماذا الاستهلاك الحالي للسعودية من الديزل يصل إلى قرابة مليون برميل يوميا؟
ومن المعلوم أن الطلب المحلي على الديزل في ازدياد مضطرد كأحد أعلى مستويات النمو في العالم، وينمو بوتيرة من المستحيل أن تعكس نمو الطلب الحقيقي لسكان المملكة، لأن الديزل يمثل 13% فقط من إجمالي الوقود المستخدم لتوليد الكهرباء، بل إن حتى وسائل النقل معظمها سيارات تعتمد على البنزين كوقود وليس الديزل المستخدم في شاحنات الوقود فقط، والتي في الغالب تستخدم للأغراض التجارية، مما لا يمكن أن يبرر النمو الكبير الحاصل في الاستهلاك.
وفي استطراد ذي صلة فإن النمو المستمر في قطاعات الصناعة والتعدين والتكرير والبتر وكيمائيات يمثل الدور الأهم في رؤية المملكة 2030، كقطاعات اقتصادية غير حكومية تضم أعلى نسبة من الموظفين السعوديين، من أجل مستقبل اقتصادي متنوع ومستدام، والخطة الإستراتيجية الطموحة لزيادة القدرات والموارد وتنويع الاقتصاد السعودي دون الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل.
المملكة العربية السعودية لديها أحد أكبر طاقة تكرير استيعابية في العالم مما ساهم بصورة كبيرة في تلبية الطلب المحلي المتنامي على الديزل والبنزين، ولكن يضل سؤال مهم نطرحه مع هذا التنامي الغير مفسر لاستهلاك الديزل المحلي، هل زيادة الطاقة الاستيعابية وتشييد مصافي تكرير جديدة سوف يدعم تصدير الديزل وبالتالي الاقتصاد الوطني عند بيعها بالأسواق العالمية بدل استهلاكها بالداخل بأسعار رخيصة للغاية؟
منذ أن تقررت آخر زيادة في أسعار الوقود في يناير 2016، والطلب على الوقود للاستهلاك المحلي يشهد أبطأ وتيرة له من عام 2009، وهذا مؤشر على التنبه لضرورة اتخاذ خطوات جادة نحو البدء بترشيد الاستهلاك، وهذا ما يحتم تحرر أسعار الوقود بمستوى أعلى من كفاءة استخدامها وبالتالي تصدر بأسعار تدعم كفاءة الإنفاق وليس العكس، والهدف يتجاوز مجرد التوفير، فهناك أمر مهم لايقل أهمية عن سابقه، وهو ترشيد الاستهلاك، وهذا دور مهم آخر سيفعله حساب المواطن عند تعويض الفرق للمواطن الذي سيدخل في طور الترشيد الفعلي عندما يدرك الدعم النقدي للمحروقات الذي سوف يذهب إلى مستحقيه.
سعر الديزل المحلي في المملكة يعتبر متدنياً جدا ومغريا للاستهلاك الجائر والتهريب، اذا فأول خطوات القضاء على هذه المعضلة هي رفع أسعار الديزل إلى ما يقارب السعر المقرر في دول الخليج، هذا بالإضافة إلى العلاقة عكسية بين انخفاض الأسعار، وارتفاع الاستهلاك المحلي، الذي بدوره يرهق ميزانية الدولة، ويبدد الإنفاق الحكومي في معادلة صعبة بين الحفاظ على دخل الصادرات وفي نفس الوقت تلبية الطلب المحلي المتزايد.
ميزانية 2017 جاءت كظاهرة مالية تصحيحية، أكثر من كونها ظاهرة اقتصادية فقط، لأن التصرفات الاقتصادية والإصلاح الاقتصادي سوف يتغير مع الوقت ومع مراحل اقتصادية أكثر واقعية، إذا حتى في حالة ارتفاع أسعار النفط فإن رفع الدعم يجب أن يستمر ويترجم لسد الفجوة التنموية التي تسببت بها أسعار النفط المرتفعة في الأعوام 2010 إلى 2014 والتي لم يستفد منها في مشاريع تنموية وتوطين صناعي.
وفي الختام، فقرار الانتقال السلس لأنظمة تسعير أكثر كفاءة مشمولة بتدابير إعادة توزيع ذكية، وتسخير فوائد قطاعات جديدة للنمو، ينبئ بوضوح أن المملكة قد عقدت العزم على الدخول إلى عصر طاقة جديد، وبإستراتيجيات جديدة تتناسب مع المتغيرات المرحلية، ونتمنى أن يعي المواطن المساوئ المترتبة على الدعم الحكومي السابق لأسعار الوقود وسلبياتها على الإقتصاد إجمالا.
د. فيصل مرزا
مستشار في الطاقة وتسويق النفط، مدير دراسات الطاقة في منظمة أوبك سابقا
@drfaisalmrza