المرء في ليبيا لا يتكلم مع أطفاله إلا كديكتاتور أو كبطريرك. وفي أفضل الأحوال كمدير مدرسة. ثم فجأة يريد أن يتحول إلى صديق حسب تلك الوصفة العريقة التي تنتظر من الابن أن يكبر حتى تمسخ الصداقة والده صديقاً. حسناً الصداقة هنا ما هي إلا ضربة برد تأتي فجأة، أو شيء يقع من أول نظرة ويحدث وحده بقدرة قادر، أو طلب تعارف بسيط على الفيسبوك! وبحكم تلك الصداقة البعلية، يريد المرء عندما يكبر أن يكون صديقاً لما لم يهتم به عمراً ولم يوله من الرعاية سوى ما جرت عليه السنة في كتيب العائلة، ما يبدأ عادة بالعقيقة وينتهي بتحويل سطح المنزل إلى مكان درني ينبت فيه الأحفاد. وبحكم الصداقة، يحلم مدير المدرسة أو البطريرك أو ملك الملوك، ألا يكون وحيداً في كبره، وأن يكون سطح المنزل عتبة خير ترزقه بالأحفاد، وأن يرى فيهم خليفته وحامل اسمه، لكن أحد إخوة الخليفة يكسر مزراب المنزل فجأة، فيفسد روعة ذلك الحلم الوحيد الممكن في ليبيا، ويعلن كتيب العائلة ميلاد أول فرخ ربا! حسب قانون الفجأة، "هكي" يحدث كل شيء دون تفسير. يحب مدير المدرسة ابن الولد الذي يجعله سحر الفجاءة أحب من الولد! هكذا في الحب العائلي تنتقل المعجزات بسهولة كإدراك فطري أو مرض وراثي أو حتى طبيخة فاصوليا بـ "الكرشه"، تجمع ما بين النباتي والحيواني. ثم تنشأ عاطفة سخية غامضة، ما بين المخلوق العاطفي الفجائي وبين والد صاحب السطوح الذي منحنهم مكاناً صغيراً من ليبيا كي يحدثوا فيه، أصلها الدم وصلة الرحم، وعلى رأُسها تكبر وتكثر كل سطوح المنازل في ليبيا المكرمة. وبموجبها يعد من العيب اعتبار الرحم كلمة غير محافظة في مجتمع محافظ، يترابط بسببه الناس، بل إنه أول موقع للتواصل الاجتماعي قبل الفيسبوك والتويتر، لو سمحت قاعدة الأول أن يتصدرها مؤنث كامل التأنيث! يمر الجميع بنفس مراحل العمر في ليبيا، ميلاد درني، حب شباب، إدارة مدرسية ثم سطوح ثم تاريخ لا يموت، وإلا فلا عمر فيها. عزاء هذه البلاد هكذا طالما اختلفت البلدان واختلفت التعزية، وفي خضم التحولات الغريبة، يحضر التاريخ، جوهر علاقة الحب البعلية ما بين مدخلات المنزل ومخرجات سطحه. وكما جرت العادة في كتيب العائلة، عليك أن تثبت أنك وصورتك وشخصيتك تملؤون الصفحة الأولى، وأن أول كل شيء هو أنت. ومن حقك، أول الطابور، أول كرسي، أول الأوائل، أول شهيد، أول مفكر، أول من علم المخلوقات كافة ما لم تكن تعلم، أول تراكم معرفي انفجاري انشطاري لا يصدر إلا عن مدير مدرسة بالانتخاب الطبيعي وليس بالتعيين ! وعما فات الحفيد من مسلسلات في البلاد التلفزيونية بامتياز، يتحدث أول مدير مدرسة مسؤول عن رعيته، فيروي ويصدق الحفيد، ويروي فيؤمن الحفيد، وتنقطع الكهرباء، فيروي لتمضية الساعات ويتحول إيمان الحفيد إلى تعصب في الظلام، فكل ما سمعه كان هدفه الحقيقة والتاريخ وليس تمضية الوقت ريثما تعود الكهرباء. وبمضي الوقت والظلام، تشتد صلة الرحم ما بين المزاريب كافة. البيوت في بلاد القنوات التي تروي شأنها شأن المزاريب، هي كذلك تروي تاريخها الخاص الذي يتعارض مع تاريخ سطوح المشاهدين، وأسطح أخرى في المدينة تختلف معهم في الرواية، تراهن وحدة الدم على أحقية حامليه في الدفاع عن تاريخ سطوحهم الذي سطره لهم الحاج قبل أن يرحمه الله، فالحاج حاج بيت الله ولن يكذب، ومدير المدرسة لا يمكنه أن يصاب بالزهايمر، والديكتاتور لا يمكنه أن يغير عاداته. تتضارب حقائق الأسطح، الجميع يدافع عن سطوحه، أي عن حقيقتهم وهويتهم، يتنادى الدم إلى أعلى الرأس للدفاع عن الحقيقة، وليس أسرع منه إلا سيارات الإسعاف حين تأتي، لو أنها فقط تأتي، وملك الموت الذي لا ينتظر الإسعاف ويأتي! في ليبيا التاريخ سيرة شخصية خاصة، هكي، شيء يحدث في العتمة ولا دخل له بالنور أو الوضوح، شكارة بصل معلقة في البلكوني، خبزه يابسة مطروحة للشمس فوق سطوح المنزل، يلعب الحفيد ويكبر وينمو له شنب بقربها، ثم تدخل بطعامه وشرابه وعوالمه بعد تدويرها، فكيف لا ينمو رأس البصل خارج الشكارة والبلكوني، وقد أكدت مادة الأحياء في المدرسة أنه بالإمكان أن ينمو في فازو مربي مع قليلٍ من الماء ؟! يهبط رجلاً إلى الشارع بحقيقته التي تعلم، يتأبط أسلحته دفاعاً عما يؤمن به، الله أكبر.... فجده الذي رواها حج بيت الله مرتين، أي أنه رجم الشيطان لعنه الله مرتين ولا يمكن أن يُحرف شيء! لذا أيها الحفيد كان الجميع هناك يقتل الجميع ويكبر!