يرعى الأميركيون في العراق انتصاراً شيعياً على السنة. هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث للعراق، ذاك أن الأقنعة في الحرب على «داعش» مُزقت تماماً. قاسم سليماني يقود الهجوم وينشر مزيداً من الصور لنفسه، وأحد قادة الحشد الشعبي يقول لمحطة أميركية: «لقد أصبحنا على مسافة كيلومترات قليلة من قبر صدام حسين»، فيما يكشف جنرال أميركي حقيقة أن من يُقاتل «داعش» في تكريت إنما هم عشرون ألفاً من قوات «الحشد الشعبي الشيعي» وأقل من ألف من مقاتلي العشائر السنية. وافق الأميركيون على ما يبدو على أن من يجب أن يهزم «داعش» هم الشيعة، ولم يبذلوا مع الحكومة العراقية جهداً لبلورة عدو سني لـ»داعش». لا شيء أوضح من هذه الحقيقة. وهي انبعاث رديء للبوشية (نسبة إلى الرئيس السابق جورج بوش) حين قررت أن إسقاط الديكتاتور صدام حسين يجب أن يترافق مع تهميش السنة في العراق، فكان أن فشلوا في نصرهم. ها هو أوباما يصنع صدّام جديداً، فالممارسات التي حولت مجرماً كصدام حسين إلى ضحية تتكرر اليوم مع أبو بكر البغدادي. فالحشد الشعبي الشيعي يُقاتل اليوم على أرض السنة في العراق وفي مدن السنة، وهو يترافق مع تزخيم هائل للشعائر المذهبية، وعلى وقع لطميات الانتصار على السنّة لا على «داعش»، كما يترافق مع حرص إيراني واضح على تظهير مشاركة ضباط الحرس الثوري في القتال. كذلك كشفت الحرب في تكريت عن انكفاء سني عن المشاركة في القتال، على رغم أن لدى سنة العراق ما يكفيهم من أسباب للقضاء على «داعش». فالأرقام تقول إن ضحايا «دولة الخلافة» من السنة في العراق وفي سورية يفوقون ضحاياها من أي جماعة أخرى، وانتهاك التنظيم مقدسات السنة ومساجدهم ورموزهم لم يكن أقل من انتهاكه رموز وشعائر الجماعات الأخرى. إنه فشل أميركي جديد، وهو أشبه بعملية تجديد لعناصر الاضطراب. والمفارقة أن الاندفاع الأميركي غير الحذر وراء الإيرانيين في العراق يجري في ظل انكشاف المشهد المذهبي، ومن يُحذر من تبعاته هم ضباط أميركيون مشاركون في هذه الحرب، وهم وسائل إعلام أميركية تبث مقاطع فيديو لممارسات «داعشية» تقوم بها ميليشيات الحشد الشعبي. تكرار سقيم لخطأ أول، لكنه هذه المرة خطأ أكثر عمقاً وجوهرية، ذاك أنه يُجدد ضغينة محلية بعيداً عن أوهام العدو البعيد. فالحشد الشعبي يريد الوصول إلى قبر صدام حسين، ويريد هزيمة تكريت، مدفوعاً بقوة الطقس المذهبي، ويتولى «يوتيوب» تظهير هذه الحقيقة أمام الجميع، فينتصر شيعة لهذه المشاهد ويُراكم سنة مزيداً من مشاعر الغضب، ولا يقتصر ذلك على العراق، فتتسرب إلى اقتناعات سوريين ضاقوا ذرعاً بـ»داعش» وإجرامها، حقيقة أن هزيمة عدوهم السني ستتم على يد عدو شيعي لا فرق كبيراً بينه وبين المنتصر الجديد. تبذل «داعش» جهداً كبيراً لإشعار السنة بأنها ليست جيشهم الأهلي، فهم ضحيتها قبل أي جماعة أهلية أخرى. هذه قناعة راحت تتعاظم في السنة الأخيرة من عمر «دولة الخلافة»، لكنها قناعة لم يتم الاستثمار فيها أثناء الحرب على «داعش». وما لا شك فيه أن الحرب في تكريت أصابت هذا الاقتناع بمقتل. هذه الحرب أعادت إنتاج أسباب الأزمة في العراق وفي سورية. وضعت السنّة أمام حقيقة أن عليهم أن يختاروا بين أبو بكر البغدادي وقاسم سليماني. والقول بأنهم سيختارون الأول فيه مجازفة وافتئات، لكنهم من دون شك لن يختاروا الثاني. من الواضح أن دفاعات «داعش» تتداعى في المدن التي تسيطر عليها، لكن ذلك لا يجري في سياق القضاء على التنظيم الإرهابي، إنما في سياق صراع مذهبي على النفوذ. هذا الدرس لم يتعلمه الأميركيون في العراق. فقد تم القضاء على صدام حسين ليُستبدل بطاغية موازية، فكانت «داعش». واليوم لن تعجز البطن التي أنجبت صدام الأول وصدام الثاني عن إنجاب صدام ثالث. قبل أشهر قليلة من بدء الهجوم على تكريت، قال الزعيم الكردي مسعود بارزاني إن البيشمركة التي تخوض حرباً على تخوم مدينة الموصل لن تدخل المدينة، وإن هذه المهمة يجب أن تتولاها عشائر الموصل بعد تسوية سياسية معها. كشف هذا الكلام وعياً مبكراً بحقيقة أن القضاء على «داعش» لا يكتمل من دون قيادة السنة في العراق هذه المهمة. ما يجري في تكريت اليوم عكس ذلك تماماً، لا بل ثمة حرص كبير على تظهير نصر مذهبي تمارسه طهران وترعاه واشنطن، أوقع الراغبين في قتال «داعش» من السنة في احتمالات التخوين، وهو ما يُفسر الانكفاء السني عن القتال في تكريت. والغريب هو تعمد طهران الكشف عن حجم مشاركتها، وهو ما يدفع إلى الاقتناع بأن لا رغبة في القضاء على «داعش»، وأن «دولة الخلافة» هي العدو الضروري لمد النفوذ. وفي هذه اللحظة يكف الأميركيون عن الكلام، ذاك أن القول بأن طهران تتقدم في العراق، وهو ما لا يمكن دحضه، يضع الفلسفة الأوبامية لمكافحة الإرهاب أمام سؤال لا ترغب الإدارة الأميركية في الإجابة عنه اليوم، ويتمثل في: هل ترى واشنطن أن «عدوها السابق» قاسم سليماني هو الشخص النموذجي للقضاء على «داعش»؟ وهل يمكن أن يحصل ذلك من دون شريك سني؟ ما يمكن أن يخلص إليه المرء في ظل الحرب في تكريت هو أننا لسنا في المرحلة الأخيرة من عمر «داعش»، وأن ما يجري هو تجديد لأسباب وثبتها في السنة الأخيرة. قد تزحف الجيوش على المدن التي احتلتها «داعش»، لكن ذلك لن يعني هزيمتها. ولن يكفي قُبح وجه التنظيم ومستويات إجرامه لجعل عشائر السنة في العراق تقبل بقاسم سليماني محرراً لمدنهم. سنكون أمام فصل جديد من الحرب المذهبية. ربما من دون «داعش»، لكن ذلك لا يعني أنها ستكون حرباً أقل كلفة. *نقلا عن "الحياة"