كان يا ما كان، في قديم العصر والزمان، قبل عصر الانغماس "بشوية".. في إحدى لحظات الكساد في تلك الحقبة، اتصل بجدي أحد أقاربنا الممتدين على طول ساحل ليبيا، واستأذن منه أن يزورنا وابنته خلال الأيام المقبلة. كان الاستئذان في حد ذاته مثيراً للريبة، فكل ليبي– حقيقي– يعرف أن الأقارب يعتمدون الإنزال البري المباغت في زياراتهم. فور وصولهما- المبكر للغاية– صرّح الضيف بأنّ غرض الزيارة علاجي، وأن ابنته يسكنها جنّي مخضرم، وقد سبق أنْ جلب لأجلها أتقى المشايخ وأمهرهم في اصطياد الجن دون جدوى، حتى قرر أن يأتيَ بها إلى بنغازي، حيث يقطن شيخ برتبة بروفيسور في العالم السفلي، لم يعارك عفريتاً إلا غلبه، وقد رتب معه سلفاً جلسة علاجية في بيتنا تلك الليلة. "أوو باهي يا C".. قال جدّي. وصل البروفيسور وجلس على الأرض وعبّأ بطنه المباركة. وبعد الشاي باللوز، قعدت الفتاة أمامه وغطّاها بالبطاطين. تجشّأ وبدأ بتلاوة آيات قرآنية بصوت مرعب، يكفي لإخراج إبليس من مجاري كورنيش الشابي. أنا كنت أتلصص من وراء الدرابزين، لم أكن لأفوت فرجة ساحرة كهذه. جدي كان يتحرك في البيت وكأنها أمسية عادية. يتفرج على التلفاز ويسب العرب وإسرائيل. جدتي قالت: "والله ما خايفة إلا جدك هو اللي يطلع فيه جن". واختبأت في غرفتها. سرعان ما تحدث الجان. بعد بعض الأنين والدعوات الصارمة من قبل الشيخ، كان صوت الجان تماماً كصوت فتاة فوقها كوم من البطاطين، ما اسمك؟.. قال الشيخ. "فيرناندو".. قال الجان. "من وين انت؟".. قال الشيخ. قلت في نفسي وقتها: "تي هضوما حتى الجن يسألوه من وين انت!" "المكسيك".. قال الجان. " من غااااادي!".. قال الشيخ مستفهماً، لكنه لم يكن مستغرباً أبداً. واستمر التحقيق مع الجان بشكل اعتيادي، أعني تماماً كما يحدث في غرف التحقيق البوليسية. اعترف الجان بعد ضربه وتهديده بأنه سكنها بالخطأ، وأنّ أختها كانت المقصودة، ولكنها– المسكونة– لحظها العاثر شربت القهوة السحرية. عندها قفز والدها من مكانه وسأل غاضباً: "من اللي دار السحر؟"، لكن الشيخ– بارك الله فيه– اعترض على السؤال تجنباً للفتنة بين العائلات حسب قوله، فالفتنة بنت الكلب تركت العالم أجمع واستقرت في ليبيا من زمان على ما يبدو. في تلك اللحظة عرفت من صوت التلفاز أنّ جدي توقف لوهلة على أغنية لنانسي عجرم، ومن ثم تنهد بعمق. أعلن الجان إسلامه ونطق بالشهادتين بعد دقيقتين من تنهيدة جدي، وطلب منه الشيخ أن يخرج على الفور، ولكنه– الجان الصالح– اعتذر عن ذلك ووعد أن يخرج في اليوم التالي، حيث أنّ عفريتاً مخيفاً ينتظره أمام البيت وسيعاقبه إن أمسك به. جدتي في غرفتها تصلي صلاة من خمسمائة ركعة على ما يبدو. في العالم العلوي، وعلى بعد آلاف الأميال من بيتنا، يعيش عالم الرياضيات الأمريكي البروفيسور "جون ناش"، والذي خاض صراعاً طويلاً مع العفاريت أيضاً، فالرجل عاش مع عفاريته حياة كاملة، رآها وتحدث إليها وشاركها أوقاته، مثل أي مريض بالهلوسة والشيزوفرينيا، ولكنه اكتشف بنفسه بعد سنين طويلة أن حياته مليئة بالتهيؤ والخيال، وتحصل على جائزة نوبل بينما لا زالت العفاريت تلازمه. وابنه العبقري يخوض نفس الصراع في يومنا هذا. أما بنت ليبيا المسكونة والمسكينة، فقد كانت موصومة بعار الدروشة، فهي تمتلك صفات "الدرويشة" المتفق عليها عندنا، غرابة التفكير والهدوء، أسنان كبيرة بارزة، عيون جاحظة وكثير من الظلم والإجحاف. "الدرويشة" غير صالحة للزواج بالطبع، لذا لا تحظى بأي اهتمام، ووجودها كله مجرد ابتلاء من الله لأهلها المؤمنين، لا يُسرّح شعرها عند حضور الضيوف، ولا يُطلب منها أن تلبس أفضل الفساتين لتُعرض في سوق النكاح الشرعي، لا يصطحبها أحد لأعراس بنغازي ومناسباتها الاجتماعية، تظل في البيت لخدمة "التريس" بينما ترقص أختها في قاعة موناليزا، وهي تنتظر عودتها بفارغ الصبر لأنها إنسانة تعيش على القصص. الأمر برمته مجرد تسول لبعض الاهتمام وزيارة بنغازي القذرة ولو لمرة. لو كنت محلها لاختلقت عفريتاً أنا الآخر وأسميته القهر. القهر.. من ليبيا (تحسباً لسؤال الشيخ)، تفضل "شنو تبي مني!". *جديرٌ بالذكر أن الشيخ أعلاه نظّر للحرية والدولة المدنية من ساحة "التحرير" حتى بحّ صوته.