كان نهار الخميس، الثالث والعشرون من شهر أبريل 2009، اليوم الأكثر إثارة في حياتي الإنجليزية، أو في حياتي على الإطلاق. إنني على مسافة ساعتين من المرور، كما يمر هلال معقوف من الفضة في سماء الله الأولى، بأماكن قد خطا فيها شكسبير قبلي، وعشق، وانتصر، وهزم، وهاجر، وعاد، وهرم، ثم نام قرير البصر والبصيرة في كنيسة "ترينت" المقدسة.
أما المخلوقون من رماد العدم مثل "ماكبث" و"عطيل" و"الملك لير" و"يوليوس قيصر" والحالمون في ليالي الصيف، فلا يزالون أحياء بيننا كأنهم تحصّلوا على عشبة الخلود التي لم يجدها جلجامش، بينما ظل المحبون والمصابون بعقدة الغي المزمن خلف الشعر وآله مثلي أحياءً يضربون في الظلمات مثنى وثلاث ورباع دون وجهة يهتدون إليها.
على الرغم من مئات السنين التي مرت تحت جسورنا مياهاً عاصفة أحياناً، وراكدة في أحايين كثيرة، فإننا ما زلنا نضرب في ليل مقداره ألف سنة إلى درجة تحولت فيها قلوبنا إلى غابة ضاع فيها الأصدقاء والأعداء على حد سواء، واكتشفنا، ولو متأخراً، أنهم ضاعوا في غَيابْة العمر، وتلقفهم النسيان الجميل.
طوال الطريق إلى "ستراتفورد" كانت ثمة أشياء كثيرة تثير الانتباه: المساحات الواسعة من العشب التي لا يملكها إلا الله، الخيول التي تتحرك بكل جلال مثل خيول سليمان القرآنية، البشر الذين ينحنون بمناجلهم وفؤوسهم كيف يعيدوا خلق حقولهم، والطيور التي تعزف بأجنحتها في ذلك السقف السماويّ الموشى بالغيوم ... وأشياء تعد ولا تحصى.
إنني جالسٌ على مقعدي في القطار الذي عبره عثمان العمير منذ عشرين عاماً باحثاً عن الهدف ذاته: بيوت شكسبير الخمسة، وقبره، وقصته التي لا تزال تثير الباحثين، والقراء، وتتكشف عن تفاصيل جديدة يوماً بعد آخر، حتى أن الحدث الأخير كان صورة متوقعة لشكسبير خلال فترة شبابه وبدا فيها أنيقاً متحفزاً هادئ النظرات.
بينما كان القطار يعبر بنا الحقول والساعات والأفكار سألت الأستاذ العمير، وهو منحنٍ على كومبيوتره المحمول مثلما انحنى مايكل أنجلو على تمثال موسى، عن قصة الاتهامات المتواترة عن أن شكسبير لم يكن شخصاً حقيقياً فقال لي إن ذلك " صحيح فلم توجد بعد وفاته سوى عدة اوراق بسيطة كتبها بخط يده .. والبعض يقول أن صديقه "مالرو" هو من كتب له مسرحياته". ودخلنا في حديث طويل عن "السنوات الضائعة" في حياة شكسبير وهي السنوات الستة التي سبقت وفاته.
في البدء كانت نظرة واحدة مكنتني من أن أحسم أمري بأن لا شيء يميز هذه البلدة الصغيرة التي تستلقي جوار نهر "آفون" الهادئ سوى أنها شهدت ميلاد الرجل الذي غير جغرافيا اللغة الإنجليزية إلى الأبد وأسهم في شحن عنفوانها مقدماً لمئات السنين.
وبالفعل فإن ستراتفورد تعرف تماماً أن قيمتها الوحيدة مستمدة من أنها شهدت الصرخة الأولى والشهقة الأخيرة لرجل إنجلترا الشهير وحبرها الأدبي الأعظم "وليم شكسبير" الأمر الذي جعلها عنصر جذب لأكثر من ثلاثة ملايين زائر سنوياً إليها مشكلين مورداً اقتصاديا لا يمكن الاستغناء عنه.
وبعد مرور أكثر من أربعمائة عام فإن مسرحياته تبدو وكأنها قد تمكنت من كسر العمر وإرادة السنوات كونها ظلت باقية كالأزل، إذ هي موجودة على قائمة كل مسرح في العالم، ومحفورة على ضفة أي شارع يمكن أن تسير عليه، ودخلت حتى في محادثات البشر اليومية، وفي قاموس تعبيراتهم البسيطة.
وسوف يقول لي فيما بعد جون ديلتون، وهو مرشد سياحي مهذار أكثر مما تقتضيه طبيعة عمله، إنه "في كل دقيقة تمر هنالك مسرحية تعرض لشكسبير على أحد المسارح العالمية سواءً في الشرق أو في الغرب".
وعلى الرغم من آثار المدنية التي تبدو في أغلب أركانها إلا أنه لا يمكنك إلا وأن تحس بوطأة التاريخ وقبضته التي لا تنفك تلامسنا وترسم مستقبلنا وتؤثر فيه حتى لو لم نرى ولم نعرف.
هنا بيوت بنيت منذ أكثر من ثلاثمائة عام، وأخرى بنيت قبل بضع عشرات من السنين فقط، والفرق بينهما مثل شعرة سيدنا الذاهب مع رياح العمر والتاريخ معاوية أبن أبي سفيان. التفريق بينهما صعب جداً. وحين حاولنا ايجاد الفارق بين بيتين متجاورين أيهما الأقدم لم ننجح.
حين وصلنا إلى بيت شكسبير كنا كمن جاء من كوكب آخر. يقول أحد المرشدين السياحين في البيت وهو جالس على كرسيه لا يقوى الوقوف بسبب شيخوخته المبكرة نوعاً ما: " أهلاً بكم ... لا يأتينا زوارٌ كثر من الشرق الأوسط". ويضيف بعربيته المكسرة محاولاً إضفاء أكبر قدر من البهجة: “السلام أليكم (عليكم)".
بالطبع كان شكسبير ثرياً. هذا البيت واحدٌ من البيوت الأنيقة لتي كانت تمتاز بها هذه البلدة. كما أن بيته الآخر يحتوي على حديقة ضخمة تعتبر واحدة من العلامات البارزة في "ستراتفورد"، وكل هذه الثروة لم يكن ليتمكن من تكوينها لو ظل خلف والده صانع القفازات. إن وظيفتنا في هذه الحياة هي الهرب من صانعي القفازات وصناعة مستقبلنا على طريقتنا الخاصة.
غرف البيت ضيقة من الداخل رغم اتساعه إن أُخذ ككتلة كاملة، وعلى الأطفال أن يناموا جوار سرير والديهم حتى يكبروا ليتمكنوا من حمل الشمعة والتجول في البيت ليلاً، وصعود السلالم التي تكوَن درجاً لولبياً نحيلاً يلتف على البيت من الداخل كأنه أفعى خُلقت من الخشب.
حين خرجنا صافحنا النسيم العليل وخضرة الحديقة الخلفية الملحقة بالبيت وابتسامات ثلاثة من الممثلين الشبان وهم يرتدون لباسهم فيكتوري الطراز. بكل احترام سألونا إن كنا متحمسين لئن يلعبوا لنا جزءاً مما يمكن أن نختاره من مسرحيات شكسبير. الحسناء الإنجليزية سألتنا بلطف كأن نهر آفون ينساب من بين شفتيها:" تحبونه كوميدي ام تراجيدي؟".
ألتفت علي السيد العمير وقررنا سوياً "لتكن تراجيديا هذا النهار".
وبعدها أخذنا مقعداً خشبياً ننظر إليهم وهم يمثلون مقطعاً صغيراً من مسرحية "ماكبث". في لحظة تحول المكان إلى غرفة في قصر وامرأة تحرّض على القتل ورجل مسكون بكل هواجس الدنيا ورغباتها وقوتها وعنفوانها وسُلطتها. اللهجة الإنجليزية الصرفة كانت تطن في أسماعنا وتدور فوق رؤوسنا مثل غمامة حبلى بالمطر والحب والشبق اللامحدود لما لا يُعرف.
في الجزء الآخر هنالك الصور التي رسمها الفنانون التشكيليون عن شكسبير. مديرة المعرض الفني صافحتنا باحترام وانحنت انحناءة شبيهة بانحناءة أوباما الشهيرة. وطافت بنا في أرجاء الصور. حين لاحظت إحدى الصور التي تصوّر شكسبير في شبابه أصبت بالذهول. لقد أظهرته وكأنه فتاة جميلة بجدائل شقراء. لكن المرشد العجوز الذي كان يلهث بعد كل جميلة قال لي إن هذا هو الشكل المعتاد والهيئة الطبيعية للشبان في ذلك الوقت.
أما الدهشة الحقيقية التي انتابتني كانت حين طفنا في بيت زوج أبنة شكسبير الذي يقال إنه كان طبيباً. لكنه وبالنظر إلى ادواته المستخدمة في ممارسة الطب فقد بدا لي أنه كان حداداً ليس إلا.
خرجنا من البيت إلى جولة على البلدة الصغيرة وزيارة المسرح الجديد الذي لا يزال يُبنى على ضفة النهر. الهدوء هو أحد مميزات هذه البلدة إضافة إلى سحر نهرها الصغير. المسرح سوف يكون مبنياً على طراز العمارة الحديثة وهذا ما قد يضايق الأمير تشارلز الذي يؤيد نمطاً معمارياً محافظاً.
هبط الليل سريعاً. لم يكن هنالك ما يميز ليل هذه البلدة سوى مشهد لفت انتباهنا جميعاً. شاب يبدو في الخامسة والعشرين من العمر ذو سحنة عربية وأنف طويل يداعب كتيبة كاملة من العجائز، وهم غارقون في الغزل والحب والأمل.
فعلاً. ما أضيق هذه الدنيا لولا فسحة الامل !