كان خبر فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، واحدا من الأخبار السعيدة بالنسبة للسعوديين، بعد سنوات عانوا فيها من الحكم الديمقراطي، والميول اليسارية غير المعلنة، للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.
وماهي إلا أسابيع قليلة من توليه رئاسة أهم بلد في العالم، حتى تبيّن للعالم سبب التفاؤل السعودي، والذي تبدّى في الثنائية المتناغمة بين البلدين في معظم قضايا المنطقة، وشهدنا ثنائية سياسية تشابه ثنائية فهد – ريغان .
كان مجيء ترامب ضروريا لمحو آثار أوباما من الذاكرة السعودية، وإعادة العلاقات بين البلدين إلى موضعها الطبيعي، فكلاهما يملكان الأجندة السياسية ذاتها، ويشكلان لبعضهما البعض أهمية كبيرة. كما أنه كرّس اليقين السياسي السعودية بأن الحكومات الجمهورية أكثر أماناً بالنسبة لها من الديمقراطيين.
وحين أقوم برحلة تاريخية حول العلاقات السعودية الأمريكية كباحث في العلاقات الدولية، فإنني لابد وأن أتذكر كل الأزمات الحديثة التي تسببت بها الحكومات الديمقراطية للمملكة. إنني أتذكر أن الإشارات الحمراء قد أضيئت في القصر الملكي السعودي بعد تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية، والركن الهام في إدارة أوباما، هيلاري كلينتون، حول دخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين الذي وصفته بأنه "مسار خاطئ"، وما لبثت أن حاولت تلطيفه بعد غضبة الحلفاء، وعلى رأسهم الملك عبد الله.
أعادت تصريحات كلينتون المترددة، بشأن التدخل السعودي -الخليجي، في أزمة البحرين، إلى عقول السعوديين عقدتهم القديمة من الحكومات الديموقراطية، التي تتولى شؤون قصر الحكم الأبيض، في واشنطن دي سي؛ تلك المدينة المملة التي سميت باسم القائد العسكري للثورة الأميركية، ورئيس أميركا الأول: جورج واشنطن.
لقد غضب القصر الملكي بشدة من تصريحات كلينتون، التي حركت هواجس صنّاع القرار القديمة من واشنطن الديموقراطيين، ما دفع الملك عبد الله إلى إعلان الحد الأقصى من التأهب، خصوصاً وأن دخان الحرائق السياسية بدأ يتشكل فوق سماء الخليج العربي.
من بعد فرانكلين روزفلت لم يجد السعوديين تحالفاً وثيقا مع الحكومات الديمقراطية يرقى إلى العلاقة مع نظيرتها الجمهورية.
لدى السعوديين محطات تاريخية مع الديمقراطيين بنت جبالاً من الشكوك، وعمقت إحساسا بعدم الثقة في الأوساط الملكية والأميرية؛ ففي عهد هاري ترومان، خليفة روزفلت الأول، كان أول قرار أتخذه الاعتراف بإسرائيل، رغم أن لدى السعوديين تعهدا بعدم الاعتراف الأميركي بالدولة الصهيونية الوليدة دون التنسيق معهم.
وبعد الخليفة الأول، مر سرب من التابعين الذين لم يفعلوا أكثر من تعميق إحساس السعوديين بالمرارة، والقلق.
على سبيل الحصر لا المثال، فإن جون كيندي، سارع إلى الاعتراف بـ "الانقلاب السلالي"، نسبة لعبد الله لسلال المؤتمر من ناصر مصر الراحل، رغم عدم رضا السعوديين الذين كانوا يرون في سقوط الإمامة، تهديداً مباشراً لملكيتهم المحاصرة، وزاد على ذلك بأن رطّب علاقاته مع عبد الناصر بشكل رومانسي حتى حين.
أما خلفه ليندون جونسون فقد تحالف مع إسرائيل بطريقة فجة كما ظهر في حرب 1967.
وبعد جونسون جاء كارتر، الذي كان عهده فشلاً ذريعاً، وصلت فيه السياسة الأميركية إلى أقصى نعومتها، ما تسبب في إسقاط شاه إيران، الحليف الطاووسي الوثيق، فكان "تخاذلا مهينا" على حد تعبير سياسي سعودي تحدث معي.
أما عهد كلينتون فقد تميز في أول عامين ببرود واضح في العلاقات بين الرياض وواشنطن، لولا أن الملك فهد تدارك الموقف عن طريق صفقة تجارية بين البلدين، أسهمت في تلطيف الأجواء.
وربما كان ذلك البرود في عهد كلينتون عائدا إلى الكيمياء المفقودة بينه وبين سفير الرياض الشهير، بندر بن سلطان، الذي رفض استقبال كلينتون عدة مرات عندما كان مرشحاً لحكم ولاية أركانساسا، ولم ينس كلينتون ذلك، خصوصا وأنه غادر السفارة السعودية بشكل مذل، في إحدى المرات، حين رفض بندر مقابلته.
وفي عهد أوباما بلغت الخلافات أوجها في وقت عصيب لم يكن يحتمل هذا النوع من الخلافات، فقد كان في أيام الثورات العربية، التي بدا خلالها وكأن البيت الأبيض يعمل فعليا ضد المملكة، ومصالح حلفاءه في الشرق الأوسط.
لم تكن أحداث البحرين الاحتكاك الأول أو الأخير بين السعوديين وأوباما، لكنه الأخطر، ثم يأتي من بعده الأوضاع السياسية في مصر، فقد حاول الملك عبد الله أثناء مكالمة غاضبة، إقناع الإدارة الأمريكية بعدم التدخل في مصر، وترك الأمر للشعب المصري ليقرر، لكن تصريحات أوباما حول ضرورة رحيل الرئيس المصري حسني مبارك تسببت في رحيله.
وفي الأحداث السورية كان الملك عبد الله راغباً تخليص سوريا من السيطرة الإيرانية التي يمثلها بشار الأسد، وحين قطع إجازته، وعاد إلى المملكة للاستعداد لعمل عسكري دولي لتطهير دمشق، تفاجأ بتراجع الإدارة الأمريكية، والتشويش المتعمد على الأرض السورية من قبل تركيا وقطر.
لقد مضت تلك اللحظات العصيبة وجاء رئيس جمهوري جديد يعرف الأهمية الحيوية التي تمثلها المملكة في العالم منذ أكثر من نصف قرن، ومعها تاريخها الطويل في كونها "قوة إيجابية" تعمل بشكل كبير على حفظ الأمن والاستقرار.
وأعتقد أنه ومنذ الزيارة الأولى إلى المملكة عرف ترامب سر الشرق الأوسط، ومفتاحه الكبير: إنها الدولة التي حشدت للقائه أكثر من خمسين دولة في يوم واحد... إنها السعودية.