تُضحِكُك بعض الأخبار حين تقرؤها لكن ما يضحكك أكثر هو معرفة عقلية من يتعامل معها على أنها حقيقة محضة، ومنها الأخبار التي تزعم أنه تم شراء دولة عظمى بعدد من الصفقات المليارية. نعم هذه هي الأخبار التي انتشرت في صحف رجيع القومية في العالم العربي، والأكشاك الإعلامية المنتشرة في أكثر من دولة عربية.
على مر التاريخ الحديث لن ترى طفولة أكثر من طفولة اليسار العربي، وثورييه، ومتقاعدي القومية العربية. إنهم لا يعلمون أن الدول العظمى لا تباع ولا تشترى. إنها نكات تيار الممانعة الذي يحاول خداع مناصريه، وتفسير فشله السياسي في المنطقة بأنه المال، والمال فقط.
هؤلاء لا يعرفون أن اقتصاد ولاية واحدة من الولايات الأمريكية الخمسين يماثل دولة من الدول الكبرى في العالم، مثل بريطانيا وكندا وكوريا الجنوبية، وغيرها من الاقتصادات العالمية الكبيرة، وربما يتفوق عليهم. إن إجمالي الناتج المحلي لولاية بنسلفانيا، على سبيل المثال، يفوق مثيله في المملكة الغنية بالنفط، فقد كان ناتجها الإجمالي عام 2017 أكثر من 752 مليون دولار، متفوقة على السعودية بأكثر من خمسين مليون دولار فق إحصاءات صندوق النقد الدولي.
هذه ولاية واحدة فماذا عن بقية الولايات؟ إنها دولة عظمى مكونة من عدة دول كبيرة أيضاً.
لو حسبنا عدد الصفقات التي أنجزتها السعودية مع أمريكا، والبعد الزمني لاستحقاقها، فسنجد أن مبالغها لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من الاقتصاد الأمريكي، بل إن ميزانية السعودية كاملة لن تستطيع تسيير أمريكا لأكثر من ثمانية أسابيع.
علينا أن نعرف أن هذه الصفقات مفيدة للاقتصاد السعودي بشكل كبير، وخصوصا في مجال توطين التقنية والصناعة، وتعزيز الابتكار، وتعبيد الطريق للمستقبل. لسنا وحدنا الباحثون عن الصفقات في الدولة الأمريكية العظمى، بل إن هناك دولاً كبرى كالصين دفعت مبالغ مليارية للحصول على صفقات أمريكية، رغم أنها دولة متفوقة في التقنية والصناعة والتسليح.
ما هو السر في التحالف الأمريكي السعودي؟ إنها قوة الطرفين وعمق تأثيرهما في المنطقة، وتقاطع مصالحهما إلى حد كبير في العالم، فلديهم الرغبة ذاتها في محاربة الإرهاب، وتحجيم نفوذ إيران، وتعزيز الاستقرار العالمي، وفتح الأبواب أمام الحركة الاقتصادية العالمية.
من تابع تصريحات دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية يمكنه ملاحظة التذمر الذي أبداه من الدول النفطية الغنية، ودول الخليج التي لا تريد أن سوى الحماية الأمريكية دون أن تدفع. وماهي إلا أسابيع من توليه رئاسة أكبر دولة في العالم، حتى تغيرت لغة ترامب بأكثر من مئة وثمانين درجة.
لماذا هذا التغير؟
هذه قصة يفسرها السفير الألمع في تاريخ المملكة، الأمير بندر بن سلطان، فلطالما عاصرها لأكثر من عقدين وقت أن كان سفيرا لبلاده في أمريكا. كانت مقولته الشهيرة هي أن المرشح عادة ما يتحدث سلباً عن المملكة قبل الدخول إلى البيت الأبيض، وحين يبدأ مهامه الرئاسية، ويرى الأوراق والخرائط، يفهم لماذا السعودية مهمة للأمن القومي الأمريكي، وللسلام العالمي.
حين زار ترامب المملكة رأى بعينيه ما الذي تستطيع هذه الدولة الشرق أوسطية أن تفعل. لقد حشدت للقاءه أكثر من خمسين دولة، حضرت بتمثيل رئاسي رفيع، لأن الداعي كان هو المملكة، ومن الصعوبة تصور أن دولة أخرى يمكنها أن تفعل الشيء ذاته.
السعودية مهمة لأمريكا كما هي أمريكا مهمة للسعودية. إن هنالك دولا كثيرة في العالم، على استعداد أن تفعل ما هو أكثر من الصفقات التي وقعتها الرياض مع واشنطن، ولقد فعلت بالفعل والقول. هنالك دول رهنت سيادتها، وقدرها، وقدرتها، للإدارة الأمريكية، ولكنها فشلت في أن تلعب دوراً في المنطقة يؤهلها للبقاء في ذاكرة التاريخ.
الرجال والرماح هم من يصنع المجد، وليست القطع المعدنية. بعض الدول ليست سوى قطع معدنية، وحيز صغير على خريطة كبيرة، وبعض الدول خريطة بحد ذاتها.