تمتلك السعودية نفَساً طويلاً في سياساتها الخارجية، مفضلةً دائماً الحلول السياسية السلمية في مفاوضاتها تجاه القضايا المتوترة على استخدام القوة، وتبذل من أجل تقدم ينهي كل الخلافات قصارى جهدها، ليس ضعفاً أو استخذاء بقدر ما هو استنفاد الحلول السلمية ما دامت ثمة طرق لا تزال معبدة بالآمال؛ لاحتواء الأزمة، وتدفع كل هذه الجهود بما يتوافر لديها من إمكانات متاحة، وهي تعلم جيداً أنها تعمل في إطار تقلبات سياسية حادة مصحوبة بالعواصف والاستقطابات الطائفية المشمولة بالمطامع السياسية، حتى ليلة ما قبل البارحة كان ثمة بصيص ضوء وبارقة أمل للمفاوضات مع ميليشيات الحوثي؛ لإنهاء الأزمة وإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، وتهيئة ظروف ملائمة للعودة إلى طاولة المفاوضات، إلا أن الصوت والذراع الإيرانية كانا المؤثرين الأقوى، ولاسيما أن الحوثي قد استشعر قوته المدعومة من إيران في بسط نفوذه على كل الأراضي اليمنية، حتى وصل أو أوشك على الوصول إلى عدن؛ هدفه الأخير والأهم في الاستراتيجية الجيبوليتيكية التي ستخولها من بسط نفوذها على مضيق باب المندب والتحكم في الملاحة العالمية إذ يعد واحداً من أهم الممرات البحرية في العالم، هذا عدا استكمال المنظومة الإيرانية المشمولة في استراتيجيتها الاستعمارية من خلال وسطائهم، بعدما تحقق لهم التمكين أو بمعنى أدق الوجود في سورية والعراق ولبنان وأخيراً اليمن، جاءت استغاثة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي في الوقت الحرج والحاسم لتصيب آذاناً صاغية وعقولاً مدركة، فكانت استجابة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الحازمة معادلة تماماً لقوة المؤثر والخطر الداهم بإطلاق عملية "عاصفة الحزم" فجر يوم الخميس الماضي، مستنهضة همم القوات الخليجية والعربية؛ للمشاركة في هذه العملية والانضمام إلى شرف الدفاع عن حياض بلد شقيق بواسطة أيدٍ عميلة تعمل لتحقيق أطماع توسعية إيرانية، التي كان يتمركز أسطولها البحري في مضيق باب المندب انتظاراً لتمكن الحوثي من تصفية الرئيس اليمني الشرعي عبدربه هادي وإنهاء أي مقاومة تعترضها لتحقيق مطامعها، إلى قبيل طردها بواسطة البحرية المصرية المشاركة بعملية عاصفة الحزم. اليوم نحن أمام فاتحة لعهد جديد أعاد للعرب ثقتهم في أنفسهم، وقدرتهم على التكتل والتحالف من أجل إنقاذ اليمن من الانهيار الكامل والحيلولة دون تسليمها إلى قوى أجنبية طامعة، وإعادة أمنها واستقرارها، وهو ما يجعلنا اليوم نعيد كل حساباتنا السياسة المتبعة سابقاً في تعاملنا مع الأشياء؛ إذ إن تمييع القضايا الساخنة المحدقة بنا من خلال المشاورات والمؤتمرات واللقاءات، لن يحسب إلا لمصلحة العدو. «عاصفة الحزم» ودعوة خادم الحرمين الملك سلمان الحاسمة جاءتا في اللحظات الأخيرة للضربة الحوثية الإيرانية القاضية، فماذا لو تباطأنا –لا قدر الله– في اتخاذ هذا القرار لانقلبت معادلة الخليج العربي والعالم العربي والعالم برمته رأساً على عقب، وستدخل إيران التي تفاوض الولايات المتحدة اليوم بشأن برنامجها النووي إلى بوابة أخرى أوسع وأعمق، بوصفها المتحكمة في باب المندب، وهي التي تجيد لعبة المفاوضات وستتخلص نهائياً من كل العقوبات التي تصر الولايات المتحدة فرضها عليها، وهي تستشعر أخيراً تنصل حلفائها معها، ولاسيما تلك الدول التي ترتبط بإيران ببعض المشاريع والمصالح المعلنة وغير المعلنة، بمعنى أن هذه الضربة الاستباقية لو تأخرت قليلاً لانتقلنا إلى مرحلة مفاوضات من نوع آخر ستكلف الخليج العربي اقتصادياً وأمنياً ردحاً لا يستهان به من الزمن. اليوم يجدر بنا إعادة تركيب اللعبة السياسية على معايير أخرى، أهمها القوة؛ القوة التي يخضع العالم اليوم برمته لنيرها وإرادتها، ونحن في الخليج العربي قد اكتملت أدواتنا، التي تبدأ من التلاقي في الإرادة السياسية العربية الواحدة التي ظهرت بروح الانتماء في الاجتماع التشاوري على مستوى وزراء الخارجية في شرم الشيخ، واستكمال البنية العسكرية التي أظهرتها القوات العربية المسلحة في «عاصفة الحزم»، لم يعد بعدها لإيران سبيل لاختراق هذه الوحدة وزعزعة الإرادة العربية التي تشكلت اليوم، بعدما يتم القضاء على كل الميليشيات التابعة لها في العالم العربي واستئصالها نهائياً، فإيران تضع في حساباتها جيداً، فالمملكة العربية السعودية اليوم ممر حقيقي لتفجير إيران بسحق قواعدها في العالم العربي ليس على الطريقة الأميركية، كما يصفها الإعلام البريطاني والإسرائيلي، بل على الطريقة العربية المحضة التي جربتها مع الفرس في انتصارها الأول في معركة ذي قار، لذلك لا يجب التوقف عند هذا الحد، بل يجب أن يستمر هذا التحالف من دون توقف؛ لاستئصال شأفة كل الميليشيات المتطرفة في العالم العربي، تلك التي تفتك في بعض الدول التي تناضل من أجل استرجاع شرعيتها المختطفة بقوة السلاح الإيراني وأيدي الموالين لها. وأخيراً أتمنى أن تكون الأزمات التي تلاحقت تترى علينا قد علمتنا درساً مهماً هو: ألا نثق بالموتورين الحاقدين أمثال الشاويش علي عبدالله صالح الذي قلب لنا ظهر المجن، بعد كل ما منح له، وبعد العفو وتناسي كل أخطائه السياسية الفادحة منها وقوفه العدواني ضد السعودية والحلفاء في حرب الخليج الثانية، وكان آخرها إنقاذ حياته من موت محدق إثر التفجير الذي تعرض له، حيث نُقل بإخلاء جوي، وقدم له العلاج اللازم وغير اللازم، فلم يحمد أو يشكر، ولعل الله -سبحانه وتعالى- جعله بيديه المحروقتين آية لكل الذين لا يحمدون فضل الأخذ ولا يقدرون قيمة العطاء. *نقلا عن "الحياة"