التاريخ يعيد نفسه في القمم العربية... ذلك أن الدورة السادسة والعشرين التي عُقدت في شرم الشيخ، لا تختلف من حيث أهدافها السياسية والأمنية عن قمة القاهرة سنة 1964 التي دعت إلى إنشاء قيادة عربية موحّدة لجيوش الدول العربية. كما طالبت في حينه، بضرورة منع إسرائيل من تحقيق طموحاتها المائية من طريق تحويل مجرى نهر الأردن. صحيح أن المخاطر التي تصدى لها الملوك والرؤساء في قمة شرم الشيخ، كانت مختلفة من حيث مواقعها الجغرافية وتداعياتها الأمنية... إلا أن الصحيح أيضاً أن مشكلة الحرب الأهلية في اليمن شكّلت هي الأخرى، تهديداً للنظام العربي، ولكل ما حرص مؤسسو الجامعة على رعايته وبنائه. وكما تضمّن ميثاق الجامعة (1945) أهدافاً ثابتة تتعلق بصيانة المواقف العربية المشتركة، وتأكيد مركزية القضية الفلسطينية، كذلك نصّ إعلان شرم الشيخ على أهمية ترميم الانهيارات السياسية والأمنية التي تشهدها غالبية الدول العربية، وخصوصاً اليمن وليبيا. يقول المراقبون إن أول اهتمام أبدته الجمهورية الإسلامية الإيرانية حيال اليمن، كان آخر ثمانينات القرن الماضي، أي عندما توقّفت الحرب العراقية- الإيرانية وأعلن الخميني قبول وقف إطلاق النار بقرار نافذ وصفه بأنه أبشع من شرب السم. في ذلك الحين، وجدت طهران أنه من المناسب فتح خطوط الانفتاح على القوى المذهبية المتعاطفة مع شعاراتها الأيديولوجية، لذلك استضافت طلاباً حوثيين كانوا بمثابة خميرة التطبيع التي حملت إلى صنعاء بذور المعارضة السياسية. وكان بين الطلاب حسين بدرالدين الحوثي الذي تزعّم حركة التمرد. ولما انتُخِب عبدربه منصور هادي رئيساً لليمن، خلفاً لعلي عبدالله صالح، ضاعف الجيش النظامي التابع بغالبيته لنفوذ صالح، مساعداته اللوجستية والأمنية للحوثيين. وفي تقديره أن توثيق العلاقة مع جماعة تتميّز بأفضل الرعاية لدى إيران، قد يفتح أمامه فرصة العودة الى الرئاسة، خصوصاً خلال الفترة التي هرب فيها هادي إلى عدن. ولما اكتشفت السعودية هذه اللعبة المزدوجة، قررت مساندة الشرعية التي يتمتع بها منصور هادي، وتجاهل الرئيس الذي أعانته على الصعود من أول الدرب. لذلك أرسل نجله إلى الرياض لعله ينجح في إقناع المسؤولين بأهمية الدور الذي يلعبه، في حال جدّدت المملكة ثقتها بتعاونه. والثابت أن الرياض رفضت «عرض التوبة»، وقرّرت دعم الدور الشرعي الذي يمثّله منصور هادي. علماً أن علي عبدالله صالح اعتمد من أول الطريق على مساندة المملكة التي وفّرت له كل الإمكانات الضرورية لتأسيس البنى التحتية في العاصمة والمحافظات. ويتذكّر خصوم علي صالح زيارته المفاجئة لجدّة، يوم طلب من برج المراقبة في المطار السماح لطائرة خاصة قدّمها له أحد أثرياء اليمن، بالهبوط على أمل الاجتماع بوزير الدفاع الأمير سلطان بن عبدالعزيز. واعتذر الأمير سلطان عن استقباله، وكلّف مصطفى إدريس، رئيس اللجنة الخاصة المسؤولة عن ملف اليمن، الاطلاع على المبادرة التي يحملها. وتوجّه إدريس إلى صالون الاستقبال في مطار جدة، ليستمع إلى العرض الخطير الذي قدمه علي عبدالله صالح. وقال اثناء ذلك اللقاء، انه سيستخدم وسائل التهديد بالسلاح... وأنه سيفرض نفسه قائداً بالقوة. ثم اختزل مطلبه في آخر الاجتماع بالقول انه يتوقع من المملكة عدم عرقلة مشروعه السياسي. وظل صالح وفياً لتلك العلاقة طوال المدة التي حكم فيها اليمن. ويفسّر أنصاره الأسباب الحقيقية التي دفعته الى التقرُّب من الحوثيين، بخوفه من الاعتقال والمحاكمة، وحرمانه من الثروة الطائلة التي جمعها من الهبات والمساعدات بطرق غير مشروعة. المهم أن الهجوم السعودي غير المتوقع في حسابات الدول المعنية، قد أفسد خطة التحريض على العصيان والتمرد في البحرين ودول خليجية أخرى. ومع أن الأساطيل الغربية متواجدة بكثافة داخل القواعد البحرية والجوية في منطقة الخليج، إلا أن الأمم المتحدة تخوّفت من استجابة طهران نداءات حلفائها وأتباعها، الأمر الذي يؤدي إلى إشعال حرب إقليمية واسعة. في إعلان «شرم الشيخ»، شدد المجتمعون على بذل كل جهد ممكن من أجل الحؤول دون بلوغ بعض الأطراف الخارجية مآربها في تأجيج نار الفتنة والفرقة والانقسام على أسس مذهبية أو عرقية أو جغرافية. كل ذلك في سبيل الحفاظ على تماسك كيانات الدول العربية وحماية سيادتها واستقلالها. ورأى المحللون في هذه العبارة المدخل العسكري الذي قاد السعودية إلى إطلاق «عاصفة الحزم» في وقت كان الرئيس هادي يعاني في عدن من مختلف صنوف الترهيب والتهديد والعزلة القسرية. ويبدو أن وجوده في عدن لم يحصّنه ضد هجمات الحوثيين وأنصار علي عبدالله صالح. علماً انه استقوى بمدينة أبين مسقط رأسه، وبمدن جنوبية أخرى مثل الضالع ويافع وردفان. وعلى رغم انتسابه إلى المذهب الشافعي، إلا أن هادي لم يظفر بتأييد شيوخ هذا المذهب. إضافة الى هذه الإخفاقات، فقد رفض أهل الجنوب دعوته إلى إقامة فيديرالية في اليمن. وكان في طليعة الرافضين الزعيمان علي سالم البيض وعلي ناصر محمد. وقد أُشيع قبل ثلاثة أشهر، أن عبدالملك الحوثي فتح حواراً معهما بالواسطة، ووعدهما بأرفع المناصب في حال نجحت المحاولة الإيرانية. ومع فشل مختلف المشاريع المقترحة، يتعرّض أهل اليمن لحملات تهجير واسعة، إضافة الى حدوث عمليات فرز سكاني يصعب من بعدها استرداد اللحمة بين عدن وصنعاء. وفي قمة شرم الشيخ، حرص الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، على ضرورة دعم الجيش الوطني في ليبيا ونزع سلاح الميليشيات. وقد واجه برناردينو ليون، رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، خيارات معقّدة لدى تعاطيه مع الأزمة المستفحلة بين طرابلس وبنغازي وطبرق وسرت. خصوصاً أن الشكوك حول شرعية المجلس النيابي المنتخب السنة الماضية، أصبحت هي العائق الأول في طريق الحل. وعليه، يرى رئيس البعثة أنه من المحتمل إعادة انتخاب برلمان جديد ينسجم مع الواقع الذي أفرزته الأحداث الأخيرة. وفي أحاديثه إلى الصحف، عزّز أحمد قذّاف الدم، المبعوث الشخصي السابق لمعمّر القذافي وابن عمه، هذا التوجه، بحجّة أن هناك أكثر من مليوني مهاجر ليبي لا يستطيعون المشاركة في الانتخابات. ومثل هذا الرقم، وفق قوله، يشكّل ثغرة كبيرة في بلد لا يزيد عدد سكانه على ستة ملايين نسمة. لذلك اقترح توحيد البلد الممزّق قبل المباشرة في إجراء انتخابات ربما تزيد الوطن تمزيقاً وتشرذُماً. الدول الأوروبية تتخوّف من تفكُّك ليبيا، ومن تداعيات هذا النزاع على إيطاليا وجوارها. وهي تستعجل واشنطن لإيجاد مخرج لائق لا يقوّض شرعية البرلمان المنتخب في طبرق والحكومة المنبثقة عنه. وسبب الاستعجال -كما يراه الرئيس الفرنسي هولاند- الخوف من انتشار تنظيم «داعش» بين الميليشيات، تماماً كما انتشر تحالف «فجر ليبيا» المنبثق من جماعة «الإخوان المسلمين». في هذه الحال، تستعير الدولتان الممزّقتان ليبيا واليمن، نصوص الوثيقة الوطنية التي ولدت في الطائف، وأدت إلى وقف الحرب اللبنانية. ولكن تكرار تلك الولادة يحتاج الى قابلة قانونية ترعى عملية نقل السلطة بعد تشجيب نتوءاتها. ولقد كلّف الرئيس حافظ الأسد في حينه بأن يقوم بدور «القابلة الإقليمية» في وقت تبرّعت الولايات المتحدة بأداء دور القابلة الدولية. وبما أن نجاح اتفاق الطائف كان يحتاج إلى دعم الدولة المضيفة -أي المملكة العربية السعودية-، فقد تولى وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل مهمة الإشراف على قيادة أوركسترا التناغم واسترضاء النواب بهدف إقناعهم بأهمية عودة السلام إلى لبنان. والمؤسف أن قوة الفرض معدومة في اليمن وليبيا، الأمر الذي يسمح لزعماء الميليشيات المسلحة بقضم سلطة الدولتين، بحيث تصبح الوحدة الجغرافية شبه مستحيلة...