هناك موضوعات لا ينبغى أن نكف عن العودة لها والنظر فيها، ليس فقط لأنها مهمة، ولكن لأنه عليها سوف يتوقف المستقبل المصرى. هذه كلمات «كبيرة» وربما توحى بالمبالغة التى اعتدنا عليها، ولكن المؤكد أن المشكلات أكبر بكثير من الكلمات، بل إن النظر إليها كما اعتدنا أن ننظر إليها تنتهى دائما بأن نضع المشكلات جانبا انتظارا ليوم آخر. الحقائق الكبرى لدينا مخيفة فأن نزيد بقدر ٢.٦ مليون كل عام فهذه كارثة وحدها، وأن نعيش على ٧٪ من أراضينا فهذه كارثة أخرى، أضف إلى ذلك قائمة طويلة من كوارث التعليم والصحة وأخيرا وأولا الأمن، فربما ساعتها تكون قريبا من الصورة وترى الكلمات فى حجمها الصحيح. وحينما نقول إنه علينا أن نفكر بطريقة أخرى، ونبحث خارج الصندوق فى وسائل جديدة، فإننا لا نخترع العجلة، وكل ما نفعله هو محاولة إقناع أولى الأمر، وقبلهم أهل البلاد، أن مشاكلهم قابلة للحل، ليس لأننا «يوريكا» اكتشفنا حلولا عبقرية، وإنما لأننا فقط تعلمنا مما يحدث فى العالم. لفت نظرى مؤخرا الأستاذ إبراهيم عيسى حينما أشار إلى قول جمال حمدان إن مصر جنة «المتوسط» أو العادى، ولكنها جحيم المتميز والممتاز. أختلف مع جمال حمدان فى أمور كثيرة، فى المقدمة منها نظريته الجغرافية، ولكن حُكْمَه هذا فيه كثير من الحكمة وبعد النظر. فى كل بلاد العالم يجرى الاحتفال بمن حقق أرباحا أكثر، أو بعث بصادرات أكثر، أو ابتكر أمرا ما جنى من ورائه الملايين؛ أما فى بلادنا فإن الأمر يصير مصدر لعنة، وبحث عميق فى مصدر فساد متوقع. شاهدت برنامجا تليفزيونيا للأستاذ أسامة كمال مندهشا أمام الأستاذ سميح ساويرس، وهذا الأخير يضع أمامه تسعة مشروعات تتعلق بالإسكان التعاونى والسياحة وكلها بينها وبين المشاريع الحكومية المعروفة مسافة السماء والأرض فى الكفاءة والسرعة والاستجابة لاحتياجات الناس. ولكننى أعرف السبب فى إجهاض هذه المشروعات وهو أن سميح ساويرس سوف يكسب منها، لأن المفترض أن يخسر الناس فى مشروعاتهم، طالما أن الغرض هو الخدمة العامة للشعب العظيم. على صفحات «المصرى اليوم» طرح «نيوتن» فى عموده فكرة البناء فى الأرض الزراعية مقارنا إنتاجياتها بالإنتاجية فى الأرض الجديدة الصحراوية التى تترك الرى بالغمر وتلجأ إلى طرق حديثة. بعدها بفترة قصيرة خرج بفكرة أخرى، وهو كيف نسهل أمور حياتنا من حيث المرور والازدحام من خلال تطبيق القانون الذى يجعل أبنية سكنية وأخرى إدارية وكل منها جهز بما خلق له، أما الخلطة التى نعيش بها فهى عنوان كارثة أخرى. ولم ينته من هذا الموضوع حتى طرح فكرة ثالثة لها علاقة بنقل الأعضاء، ويقاوم بقوة منح الديدان والحشرات حق استخدام أعضاء المتوفى بدلا من منحها حياة جديدة فى جسد إنسان لايزال له فى العمر بقية. الدكتور محمود عمارة أيد «نيوتن» فى البناء فى الأرض الزراعية، مقدما مزيدا من الأدلة والأمثلة والمقارنات العالمية. وزاد على الفكرة حتى الآن فكرتان: الأولى أن مصر يمكنها الاكتفاء ذاتيا، وربما التصدير، إذا ما استخدمت بحيرة ناصر كمزرعة سمكية عظمى، والتى لا يقف أمامها من عقبات إلا توغل التماسيح التى يأكل أفرادها عشرة أمثال الإنسان العادى. الفكرة صناعية بقدر ما هى غذائية، لأن اصطياد التماسيح يعنى الكثير من الصناعات الجلدية عالية الثمن؛ فإذا ما جرى اصطيادها عن طريق شركات متخصصة فإن المتاح من الغذاء السمكى سوف يوفر بروتينا رخيصا للمصريين، الفقراء منهم والأغنياء. والثانية أنه إذا كانت الصين والهند وروسيا وغيرها حققت اكتفاء ذاتيا فى إنتاج القمح وانتقلت إلى التصدير بعد ندرة بل ومجاعة، فلماذا لا نفعل ذلك فى مصر وهو ممكن ومتاح باستخدام وسائل الرى الحديثة فى الصحراء، وتوفير المياه من الدلتا التى «طبلت» أراضيها نتيجة الرى بالغمر بالاعتماد على مياه الآبار بدلا من مياه نهر النيل. هذه الأفكار جرى عرضها أكثر من مرة، المدهش أن المسؤولين تجاهلوها، أما الإعلام فقد ترك الأمر للصدفة أو للعرض على طريقة غرائب الطبيعة. هل يعود ذلك إلى أننا لا نريد حل مشاكلنا من الأصل، أم أننا نخاف من كل فكرة جديدة «خارج الصندوق» لأن مثل ذلك يخص بلدانا أخرى حباها الله بما لم يحبونا به من نعمة التغيير. أم أن هناك أمرا آخر نتجاهله دائما وهو أن الأفكار فى مصر تنسب لأصحابها، فإذا ما كانت هناك فكرة ناجحة فربما تؤدى إلى ذيوع أمر صاحبها، والكارثة الأقسى هى أنها تكون دليلا على قدرة «الرأسمالية» على الابتكار والتجديد حتى فيما تقوم به من أنشطة إنتاجية وتصديرية. ما اعتدنا عليه أن تكون الرأسمالية «متوحشة»، ومصيبتها أنها تربح، ورغم أنها تفلس أحيانا فى مخاطرات غير محسوبة تتحملها، ولكن الربح هو المعضلة. فالخدمة الوطنية الحقيقية هى أن تفلس طوال الوقت. الجائز أن الطريق إلى هذا التفكير ناجم عن تجارب الحكومة والقطاع العام، تعالوا نتذكر سويا حالة الاحتفال الجارية الآن بزوال السوق السوداء فى تجارة العملات فى مصر. الاحتفال فى مكانه، والتهنئة واجبة للسيد هشام رامز، محافظ البنك المركزى، ولكن السؤال الملح هو: إذا كان ممكنا إزالة السوق السوداء بالخطوات التى اتبعت، فلماذا لم يتم استخدامها منذ وقت طويل، ومن يقع عليه المسؤولية فى إخفاق طال لسنوات؟ التجربة ليست جديدة علينا، فأنا من الجيل الذى عرف سبعة أسعار رسمية للدولار فى مصر، والنتيجة كانت السوق السوداء، وما صاحبها من تجار للعملة، انتهى بهم الحال إلى شركات توظيف الأموال، وأنت عزيزى القارئ تعرف بقية القصة. اختفت السوق السوداء فجأة لأننا قررنا أن نفعل ما تفعله دول أخرى، ولكن لأننا مغرمون بتكرار سياساتنا، فلم تنته التسعينيات من القرن الماضى حتى جاءت السوق السوداء مرة أخرى. ومرت خمس سنوات حتى تمت معالجة الأمر، ولكن ما إن جاءت الثورة فى يناير٢٠١١ حتى عادت ريما إلى عاداتها القديمة، فهكذا تكون الثورات. بعد أربع سنوات عدنا إلى حيث كان واجبا علينا أن نكون. من المسؤول عن هذه التراجعات، ومن المسؤول عن القصة المماثلة لاستخدام الكروت الذكية فى الحصول على المواد التموينية، وتوزيع رغيف الخبز، ولماذا التلكؤ فى استخدامها فى الحصول على المواد البترولية. هذه كلها لم تكن أفكارا جديدة ذات طبيعة جذرية، وثورية فى النظر إلى مصر وإدارة ثرواتها الطبيعية بطريقة أكثر كفاءة وفاعلية؛ بل إن الحقيقة أنها نبتت من داخل النظام الحكومى ذاته، ومع ذلك فإن الاستجابة لها تتم على الطريقة الحكومية أيضا: خطوة للأمام وخطوتان للخلف؛ ودائما ما أحلى الرجوع إلى الطرق العتيقة التى تثبت أن البيروقراطية كانت على حق دائما. كل ما سبق يقود إلى سؤالين: هل يمكن للمتميزين والممتازين وأصحاب الأفكار التى هى خارج الصندوق أن يكون لهم مكان فى حكم مصر وزراء ومحافظين؛ وهل يمكن للإعلام المرئى والمطبوع والمسموع أن يأخذ هذه الأفكار بالجدية التى تستحقها؟! *نقلا عن المصري اليوم