لو قيل لك قبل أشهر معدودة أن لقاء بين الرئيس السوداني والإسرائيلي يمكن أن يحدث، لشككت في الحالة العقلية لمحدثك، ولاعتبرت حديثه ضربا من الجنون.
وبالفعل، ما حدث لم يكن متوقعا حتى للسودانيين أنفسهم، لكنه لقاء يعكس إلى أي مدى يبدو فيه النظام الجديد مستعداً للمضي قدمًا، وفي أي طريق، من أجل فك العزلة السياسية، والحفاظ على ما تبقى من السودان، وعودته كلاعب إقليمي في شؤون البحر الاحمر، وأفريقيا أيضا.
الانقلاب السوداني شكلّ، وسيشكل، ضغطًا كبيراً على مصر، وعلى مواردها ونبع الحياة فيها، النيل، حسب المؤشرات جميعها، وكلها تجلت في مآلات مفاوضات النيل الثلاثية، وعدم حماس السودان الجديد لمحيطه العربي، ولا حتى لأي تدخل للجامعة العربية. أنت أمام سودان جديد، يرغب في مغادرة عالمه العربي، والبحث عن أفريقيته، ودوره العالمي، بأي طريقة كانت، ولو حتى على حساب تاريخه العربي والنضالي الطويل.
وفي ذلك وجهة نظر لابد من دراستها نفسياً، قبل دراستها سياسياً.
ما فعله النظام السوداني الجديد مثال على نهاية حقبة عربية كاملة، كان لديها نظرة مشتركة للصراع العربي الإسرائيلي، إذ يبدو الجو العام في ذلك البلد المقسوم بين عروبته، وأفريقيته، وكأنه صرخة نعم واحدة للتطبيع الإسرائيلي، في بلد اللاءات العربية الثلاث المشهورة.
بعد هزيمة حزيران الكئيبة، كانت الخرطوم المكان الذي اختارته الأمة العربية لتداري حزنها، ولتبني صفوفها من جديد. كان منظر الكبيرين، فيصل وعبدالناصر، وهما في أجواء مصالحة استثنائية، بعد صراع مرير، شديد العنف، دليل حي على قوة الامة العربية، ورغبتها في المستقبل.
كان مشهد عبدالناصر، وهو يحيي الجماهير العريضة، التي استقبلته في طريقه من المطار إلى مقر إقامته في الخرطوم، منظرا عربيا عجيبا، وصفته مجلة تايم الأمريكية بأنه أمر غريب، أن يكون للمهزوم كل هذه الشعبية، بعد هزيمة ثقيلة بكل المقاييس. كانت الصورة تظهر ذلك الزعيم المهيب، منتصبًا كقصيدة جاهلية، والجماهير تتقاتل للسلام عليه، وكأن الخرطوم تريد أن تزيل عن كاهله حمل الهزيمة، وتدفعه للنضال من جديد.
كان عبدالناصر صدى لعصره، ولتاريخ حقبة من العالم، كانت ذروة أحلام التحرر الوطني، والرغبة في التخلص من ربقة الاستعمار، في أكثر من مكان حول العالم. مرحلة لا يمكن الحكم عليها خارج إطارها التاريخي، ولا يمكن استعادتها من جديد، ولا قراءتها بعقلية القرن الحادي والعشرين.
يعاني العالم العربي من اختلاف تصوراته السياسية ازاء القضية الفلسطينية، بعد أن كانت الجامع الأول للعرب بلا استثناء. ولعل تورط زعماء القضية في خلافات عربية - عربية، جعل من الأمر اكثر تعقيداً، وألقى بظلاله الكئيبة على حياة آخر شعب في العالم يرزح تحت الاحتلال.
الواقعية السياسية لا تبرر تجميل شكل إسرائيل، والنظر إليها ككيان متحضر، فهي بدعوى رغبتها في دولة يهودية، تطلق فكرة عنصرية لا تليق بهذا القرن. بيد أنها بتفوقها التكنولوجي، والسياسي، ونفوذها المعلن والخفي، في واشنطن، لا يمكن التعامل معها على أنها دولة طارئة لا يمكنها البقاء. قوة إسرائيل عائدة إلى ضعف يعاني منه العالم العربي، وفي غياب توازن قوى بحد معقول، فإن عملية السلام مستحيلة. ولا يمكن بناء قوة فلسطينية وسط هذا البحر الهائج من الخلافات الداخلية، وفي ظل تحالفات أمراء الحرب الفلسطينيين مع القوى الخارجية.
بدلًا من جلد النظام الجديد في السودان، فلننظر للزعامات الفلسطينية، ماذا قدمت، وأخذت، ولماذا، وكيف أضرت بأعدل قضية في العالم. هذا حوار لابد أن يقوم به الفلسطينيون أنفسهم بشكل صريح، كي لا يجدوا أنفسهم وحيدين بلا عالم عربي. القيادات الفلسطينية بسوء خياراتها السياسية، جعلت من القضية الوحيدة التي تجمع العرب، سببًا رئيسا في الفرقة والاختلاف والوهن، وذلك بدخولها في التناقضات العربية، وتحولها إلى طرف في الخلافات السياسية بين دول المنطقة.
يتعامل الفلسطينيون بالعملة الإسرائيلة، ويعمل بعضهم في المصانع الإسرائيلة، ويتحدثون اللغة العبرية بطلاقة، ثم يطلبون من العالم العربي أن يموت من أجلهم، ويتحولون إلى جلادين متخصصين للحكم على كل بلد، وقيادته. إنهم يتناسون أن للدول الحقيقية مصالحها، وللسياسة الخارجية ضروراتها، ولابد من العمل السياسي الحذر، كي لا يتحول العالم العربي إلى دول خارج الزمن، تدافع عن أكثر من فلسطين واحدة.
في رأيي أن الزعامات الفلسطينية لم تكن على حجم التضحيات الجليلة التي قدمها الشعب الفلسطيني. سرقت حقه، وتضحياته، من خلال مواقفها غير المسؤولة، التي أضاعت فرصة تلو الأخرى، وزادت من العذاب الفلسطيني، وجعلت كثيرين في العالم العربي يتشككون في قدرة القيادات الفلسطينية على العمل السياسي المسؤول. وهذا في رأيي السبب الرئيسي في التحول السوداني المثير، والأهم أيضا، المزاج الشعبي السوداني التي يبدو أنه تقبل نوعاً ما، هذه الخطوة.
أمام النظام الجديد في السودان فرصته الحقيقية، في تحقيق ما يرغب فيه شعب متعب من استبداد سلطة تنظيم الإخوان، لأكثر من ثلاثة عقود. وفي حال حقق التنمية المنشودة، فإن بقاءه لن يصبح موضوع سؤال، بل حقيقة ثابتة. لكن اذا اكتشف السودانيون بأن النظام الإنقلابي ليس سوى وجه سلطوي جديد، وفي ظل علاقات مفاجئة مع إسرائيل، فإنه سيعود بالبلاد إلى دوامة العنف، والانقلابات، حتى حين.
البرهان امام اختبار صعب ولن تفيده شخصيا ولا سياسيا محاولات الانفتاح على العالم كله، مالم يشعر السوداني البسيط أن بقاءه، وبقاء المجلس السيادي، أمر مهم له ومفيد لحياته ومستقبله.