@hananalhamad73
تشهد المجتمعات الخليجية تطورا لافتا على مستوى القضايا الاجتماعية التي تتبناها فيما يخص الطفل والمرأة والشباب، متناغمة في طرحها مع جهود منظمات وهيئات الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة والطفل والشباب، وهذا من وجهة نظر العمل المؤسسي يعتبر تكامل بين الدول لمنح تلك الفئات حقوقها وأولها العيش بكرامة وأمان وبيئة صحية تمكنهم من تنمية مهاراتهم وقدراتهم.
ولعل حملة " ما ينسكت عنه" التي يقودها مجلس الصحة الخليجي وقبلها ما قدمته هيئة حقوق الإنسان في السعودية من ورش عمل كثيرة- تشرفت بالمشاركة في اثنتين منها وآخرها كانت عن "التحرش بالأطفال" يوم الرابع من فبراير 2020 - أمثلة على هذا الاهتمام، وفي هذا النشاط المؤسسي مؤشرات على الجدية في إحداث تغيير في القضايا التي كانت حتى وقت قريب من المحرج الخوض فيها لاعتبارات دينية أو اجتماعية أو بسبب الأعراف والعادات، فحملات نشر الثقافة والتوعية ضرورية جدا لتمهيد الأرضية لخطوات أكثر عمقا تصل إلى تعديل وتحسين الأنظمة والإجراءات والعقوبات التي تدعم توفير بيئة آمنة للمرأة والطفل وبقية فئات المجتمع بما يحفظ كرامتهم، لكن ما الذي يحدد أولويات تلك المؤسسات في تناول القضايا والتركيز عليها مثل التحرش والتعنيف والعنف الجسدي والعضل؟
لماذا التحرش الجنسي؟
من أكثر القضايا جدلا في وسائل التواصل الاجتماعي هي "التحرش الجنسي بالمرأة “، حيث يتم التعامل معها مجتمعيا من بعض الفئات بمعيار يختلف عن حالات " التحرش الجنسي بالطفل"، بالرغم من أنها تعتبر قانونا جريمة "التحرش الجنسي"!
عرَّفت اليونيسيف التحرش الجنسي بأنه " أي مبادرة جنسية غير مرغوب فيها أو طلب خدمة جنسية، أو فعل لفظي أو جسدي أو إيماءة ذات طابع جنسي، أو أي سلوك آخر ذي طابع جنسي يتوقع أو يُتصور، بشكل معقول، أن يتسبب في شعور شخص آخر بالإهانة والإذلال عند تداخل هذا التصرف مع العمل أو عند جعله شرطاً للتوظيف أو أن يخلق بيئة ذات طابع ترهيبي أو عدائي أو تهجمي. وقد يكون على شكل نمط سلوكي أو حدث منفرد". كما تناولت الاستغلال والانتهاك الجنسيان على أنهما يشيران إلى "أي إساءة استغلال فعلية أو محاولة إساءة استغلال لحالة ضعف أو لتفاوت في النفوذ أو للثقة من أجل تحقيق مآرب جنسية، ويعني الانتهاك الجنسي التعدي بالفعل أو التهديد بالتعدي البدني الذي يحمل طابعاً جنسياً، سواء باستعمال القوة أو في ظل ظروف غير متكافئة أو قسرية".
إذاً التحرش الجنسي هو فعل لفظي أو جسدي في التعدي على أعراض أو أجساد الآخرين، يمارس سرا أو علانية، يتسبب في شعور بالإهانة والإذلال، يخلق بيئة ترهيب وعدائية وتهجمية، يُمارس إما بشكل جماعي أو فردي .
بماذا يذكر هذا الوصف القارئ؟ هل مرت ببال أحدنا حواد تحرش جنسي كالتي حدثت لفتيات نفق النهضة في الرياض عام 2005 وبالتحرش الجماعي الذي حدث لمراسلة فرانس 24 في مصر عام 2012 وبغيرها من الحوادث التي كانت حدثا إعلاميا انتهت إما بالقبض على المتحرشين أو توقيفهم لتذوب تلك القصص في أرشيف التاريخ دون حل اجتماعي أو دراسة بحثية تتناول أسباب المشكلة.
أما حوادث التحرش الجنسي بالأطفال فقد كان أبطالها العمالة المنزلية كالسائق الذي تحرش بطفل في مدينة الدمام عام 2015 والتقطته كاميرا جوال أحدهم وآخرها السائق الذي تحرش ب 3 أطفال والتقطته كاميرا مراقبة في الشارع في مصر، وكلها تنتهي بنفس السيناريو: يتم القبض أو التوقيف دون بحث أو دراسة للأثر النفسي الذي تركه المتحرش على الأطفال ولا أسباب هذا الفعل ولا دوافعه.
الكيل بمكيالين!
المفارقة هنا هو رد الفعل المجتمعي العشوائي الذي لم نكن نراه قبل وسائل التواصل الاجتماعي وتحديدا "تويتر" تجاه ضحايا حالات التحرش والذي يكيل بمكيالين - فتختلف ردة فعله إن كانت الضحية امرأة عنها إن كانت الضحية طفلا- فالفعل نفسه يتم تفسيره وقبوله أو رفضه حسب نوع الضحية، وهذا الكلام ليس مجرد إطلاق أحكام بل واقع يؤصل لقبول فعل التحرش في المجتمعات إلى حد كبير بل ويساوي في الجرم بين المجرم والضحية إن كانت امرأة -لسبب لا يستوعبه عقل وضمير إنسان سوي – ، وعلى استحياء يتم تحميل والدة الطفل مسؤولية لبس طفلها "المغري" إن كانت الضحية طفلا "أنثى"!!! كلتا الحالتين المتحرَش به مذنب من وجهة نظر هؤلاء.
إن هذا النمط من التفكير هو نتيجة توجهات كانت تدعو إلى شيطنة المرأة على مر العصور وفي مختلف الديانات والمعتقدات – ولا ننسى الروايات التي ألصقت التهمة في أمنا حواء وأنها هي من “أغوت" أبونا آدم عليه السلام حتى أخرجته من الجنة، لتأتي حقبة سيطرة الصحوة ومتشددوها ليأصلوا للفكرة ذاتها وهي أن التحرش هو رد فعل على الإغراء والغواية التي تمارسها المرأة في تناقض مع مفاهيم المروءة التي تعتبر من أهم الصفات الذي بعث الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" ليتممها ، وإن سألتهم ما معنى غواية وما معاييرها وما الحد الأدنى لمظهر المرأة الذي يحميها من التحرش؟ وما معايير تصرفاتها وصوتها وحركة جسدها التي لا تلفت نظر المتحرش إليها ؛ لأجل أن تكون في المنطقة الآمنة؟ وماذا لو كان المتحرش امرأة؟ هل أغواها الرجل وفتنها؟ الإجابة: لا يوجد معايير واضحة إنما تفسيرات لآيات قرآنية درسوها واعتبروا بعدها أنفسهم فقهاء في الدين ومؤهلين للخوض فيه بل والنقاش وإصدار الأحكام لينتهي بهم القول "تستاهل المتبرجة!”، " لو هي محترمة نفسها ما تحرش فيها؟" علما أنهم لا يعلمون شيئا عن هيئتها ولا تفاصيل ما حدث، بل إن مصطلح التبرج فضفاض لديهم بحيث ليس لديهم حدود له، فيتشددون حتى يتحول المسار عن التحرش إلى قضايا أخرى مثل عمل المرأة وخروجها من منزلها و ..و... ويستمروا في خلط الأوراق ليعودوا في النهاية إلى نقطة الصفر وهي ما زرعه دعاة الصحوة بأن المرأة عورة ومقرها المنزل وإن اضطرت واحتاجت فلتكن قارعة الطريق وبيع المناديل والمتاجرة بصورها مصدر دخل لها، ولا أعلم حينها ما هو موقفهم منها إن تعرضت للتحرش على قارعة الطريق؟! ألا يعلم هؤلاء أن التحرش الجنسي ليس ردة فعل شهوانية آنية إنما هو سلوك أصيل لدى المتحرش حتى وإن كانت المرأة "متدثرة بعباءتها أو كانت من القواعد"!
هل ملابس الطفل سبب للتحرش فيه؟
سؤال تم طرحه من أكثر من شخص على مختصين، هل ملابس الطفل لها دور في التحرش الجنسي به خاصة الفتيات؟ لا ألومهم على هذا السؤال الذي حول النظر عن أصل المشكلة إلى الحلقة الأضعف، بدلا من نقاش لماذا قام المتحرش بالتعدي على الطفل أو المرأة؟ ما طبيعة التفكير التي سوغت له انتهاك إحدى الضرورات الخمس وهي العرض؟ لماذا شعر بالأمان والثقة للقيام بالتحرش؟ هل هناك من يتواطأ مع المتحرش بحجة الستر وعدم الفضيحة من دائرة الأقارب أو العائلة؟ كم حالة تحرش تم كشفها من قبل محيطه وتم الستر عليه؟ ومتى كانت أول حالة تحرش قام بها ومع من؟ سلسة طويلة ومزعجة جدا من الأسئلة والتي عند الإجابة عليها سوف تتساقط أسوار التكتم على الحقائق كأحجار الدومينوز، متوجها المجتمع للضحية المُنتهكة ويلومها لأنها هي من استفز شهوة المتحرش!،
لو بحث المجتمع عن بعض الإجابات لتلك الأسئلة لأكتشف أن أول ضحايا المتحرش هم إما إخوته الأصغر منه أو أخواته أو أقاربه من الدرجة الأولى، سوف يصدم أن أمه وأباه قاموا بالستر عليه حتى لا يخسر سمعته في العائلة فيعزف الجميع عن تزويجه أو توظيفه أو التعامل معه أو أن يؤتمن على أن يكون في خلوة مع أحد أفراد العائلة.
ثم تخيل معي عزيزي القارئ أن هذا الكم الهائل من التضحيات لأجل عيني متحرش سوف يتوج - في يوم وليلة - بالمغفرة من المجتمع بمجرد تلبسه بمظاهر التدين او إعلان التوبة دون تقديم علاج نفسي واجتماعي له أو حتى عقابه! ولا مكان أبدا للتفكير بالضحية أو حمايته أو تعويضه، فالضغط الاجتماعي والسمعة تنتصر على الطرف الأضعف وهو المتحرَش به سواء امرأة أو طفلا أو حتى رجلا.
هل يثق المتحرَش به بمحيطه!
هناك رأي يقول " إن المتحرَش به هو متحرش مستقبلي بنسبة كبيرة"، وبغض النظر عن صحة تلك المقولة أو خطأها، يتبادر سؤال إلى الأذهان كم متحرِش كان ضحية للتحرش به؟
تبدأ رحلة المتحرِش في الغالب - مع بداية التغيرات الناتجة عن عملية البلوغ واختبار مشاعره وشهواته - على الحلقة الأضعف في المنزل أو محيطه سواء المدرسة أو الشارع أو الأقارب، ليكبر وهو يفرغ شهواته متى ما أراد في الحلقة الأضعف والطرف الصامت دون علم الأهل وحتى إن علموا ففي الغالب يتم الستر عليه لدوافع مختلفة ليس منها حماية الضحية، ليخرج بعدها للمجتمع مدللا اعتاد تفريغ شهوته متى ما أراد مع من أراد معتقدا أن ما كان يمارسه في منزله بنفس الحماية والقبول متاحا له خارج المنزل بنفس المزايا غير مدرك للتبعات القانونية لتصرفه.
في المقابل فإن درجة ثقة المتحرَش به بمحيطه تكاد تصل إلى الصفر، فأول رد فعل في الغالب إذا ما فكر وصارح والديه أو أيا كان فاللوم والتأنيب والتكذيب بانتظاره إن لم تتعدى للعنف الجسدي لنفي حدوث هذا الكابوس من أحد أبنائهم تجاه الآخر أو من زميل في المدرسة أو من سائق المنزل الذي لا غنى لهم عنه أو من خال في مقام الوالد أو عم يعتبر سند أو ابن أخت محبوب أو ابن أخ سمعته الجيدة تسبقه، وفي تلك القائمة الطويلة تبقى الضحية هي آخر اهتمامات محيطها ويعتقدون أنها سوف تكبر وتنسى ما حدث والأمور تعدي ويا دار ما دخلك شر.
قوة القانون.....
ماذا لو كانت الضحية من المحظوظين وتنعم بأسرة دافئة محبة تقدم الرعاية والدعم والحماية وقررت رد اعتبار الضحية من خلال القانون! ما الإجراءات والجهات التي تضمن حفظ كرامة الضحية وسمعتها من خلال سرية التعامل مع البلاغات ووجود قسم خاص في مراكز الشرطة لاستقبال الحالة ووجود مختصين نفسيين واجتماعيين وضباط مدربين لاستقبال حالات التحرش الجنسي، ما إجراءات الحماية للضحية من المتحرِش الذي يحظى بدعم مجتمعي من بعض الفئات دون أن يدرك المجتمع هذا! ما ضوابط القبض على المتحرش الجنسي وإبعاده عن المجتمع لحين صدور حكم وحتى بعد صدور الحكم! لمن يتخيل الموضوع بهذه السهولة فأود أن أخبره أن هناك حالات مجرد أن فكر فيها الأب برفع شكوى على أحدهم تحرش بابنه - من فئة المعاقين - واجه إجراءات معقدة على مستوى المنظمة التي تم فيها التحرش انتهت بعمل تحقيق من غير المختصين في مثل هذه القضايا ذاب معه حق الطفل بالتقادم لتنتهي القضية ببراءة المتحرش واتهام الطفل بالكذب، أو قد يواجه أحد المخلصين - بلغ عن حالة تحرش في منظمة ما - تهديدا من أسرة المتحرش بمقاضاته لأنه تجرأ على اتهام ابنهم البريء بالتحرش الذي حدث بالفعل.
لذا قبل أن يفرح ويطبل القوم بإقرار عقوبة التشهير كجزء من عقوبة التحرش الجنسي عليهم أن يعملوا على المطالبة بإجراءات مُحْكَمَةٍ وقنوات تواصل تضمن سرعة الوصول للمتحرش به وحمايته وأسرته ومحاسبة المتحرش دون أن يفلت من فعلته كي لا يستمر في مسلسل هدم حياة الأبرياء.
أما من سأل هل لبس الطفل يؤدي إلى التحرش به؟ يسعدني أن أقول له و لكل من يؤمن بنظرية الإغواء والفتنة وكأننا في مجتمعات لا تحكمها قيم دينية أو إنسانية أو أخلاقية، بأن الله كرم بني آدم ومن أشكال هذا التكريم أن حفظ لنا الضرورات الخمس وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال دون قيد أو شرط وامتن علينا باللباس وجعله زينة وحث على التزين عند الصلاة وغيرها وبين أن الله جميل يحب الجمال و لم يسمح بالتعدي أبدا مهما كان اللبس أو الشكل أو ما إذا أثارت الملابس غريزة أحدهم أم لا، فكيف لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول بأن المتحرَش به - وقد اُنتهك عرضه الذي حفظه الدين له - يتحمل وزر هذا التعدي لمجرد أنه لبس ما يعتقده المتحرش بأنه مغري ومثير للشهوة.
إن خلط المجتمع بين جريمة التحرش ومخالفة المظهر السائد والعام في المجتمع ينشئ مجتمعا يتسم بالغوغائية يستبيح كل ما يعتقد أنه مخالف لمعاييره في الحياة كما نرى ما يحدث للمرأة في بعض المجتمعات غير الآمنة، لأنها لم توجه قيم المجتمع لإعمال العقل ولم تبين أن التبرير لمجرم هو جرم بحد ذاته.
همسة لمن يُحمل الضحية مسؤولية...
المتحرِش "رجل أو امرأة أو مراهق" هو مجرم يتسم بصفات نفسية ومعتقدات تجعل منه خطرا حتى على من يبرر له، فالمتحرش يوجد في جميع اشكال المجتمعات والأسر الغنية و الفقيرة والمتعلمة والأمية، لذا فالمتحرش قد يصل إلى أي منا يوما ما لينتهك عرض أخ أو ابن أو طفل أو طفلة أو شابة أو شاب أو حتى "قطة".