عكس الاتفاق المبدئي والإطاري بين «الولايات المتحدة الأميركية» و «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» موجةً من التساؤل في الدوائر الأميركية المعنية وفي الشارع الإيراني بأطيافه كافة وفي «منطقة الشرق الأوسط»، خصوصاً في الخليج والمشرق العربي و «مصر» حيث يتساءل الجميع عن المحصّلة النهائية لهذا الاتفاق وهل الدولتان رابحتان أم هما معاً خاسرتان أم إن إحداهما رابحة والأخرى خاسرة ولماذا؟ هذا في مجمله يجسد التساؤلات المطروحة على الساحة الدولية والإقليمية في هذه المرحلة، ولكي نستطيع مناقشة القضية بأبعادها المختلفة، فإننا نطرح النقاط الآتية: أولاً: إن «الولايات المتحدة الأميركية» تعطي اهتماماً خاصاً بإيران منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو اهتمام تزايد مع الاضطرابات التي شهدتها «إيران» بعد تأميم «مصدق» للبترول الإيراني وإبعاد «الشاه»، ثم عودته بحيث أصبح الأخير حليفاً «للولايات المتحدة الأميركية» وشُرطياً لها في منطقة الخليج وفي الوقت ذاته كانت أهمية الجزيرة العربية ودول الخليج تتصاعد هي الأخرى أمام وضع السياسة الخارجية الأميركية في منطقة غرب «آسيا» حتى قامت الثورة الإسلامية في «إيران» في رعاية «آيه الله الخميني» الذي احتضنه الغرب واستضافته «فرنسا» بعد طرده من «العراق». وتلك مؤشرات للقلق الأميركي تجاه تلك المنطقة الشديدة الأهمية بما فيها من موارد طبيعية وما لها من أهمية استراتيجية، ولقد تدهورت العلاقات بين «طهران» و «واشنطن» في شكل غير مسبوق بعد الثورة الإسلامية، واعتبر «ملالي» «إيران» أن «الولايات المتحدة» هي الشيطان الأكبر، خصوصاً بعدما احتجزوا عدداً كبيراً من الرهائن الأميركيين بمقر جامعة «طهران» ولم يتم الإفراج عنهم إلا بعد ما يقرب من 444 يوماً، في تلك الفترة ظهر الملف النووي الإيراني، والذي أخذ مرحلة طويلة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود من الشد والجذب بين «طهران» في جانب و «الولايات المتحدة» وحلفائها الغربيين في جانب آخر إلى أن بدأت التهدئة الأخيرة، وهو أمر توقعناه منذ سنوات طويلة لأننا ندرك أن السياسة «البراغماتية» الأميركية في المنطقة لا بد من أن تلتقي مع التطلعات الإيرانية وفي مقدمها ضرورة رفع الحصار عنها ودخولها في علاقات طبيعية مع الدول الغربية بما في ذلك الهيئات الاقتصادية الدولية مع الإفراج عن الأرصدة الإيرانية المجمدة منذ رحيل الشاه «محمد رضا بهلوي» بينما ترى «الولايات المتحدة الأميركية» أنها هي التي أصبحت تحتاج إلى دور «إيران» في الخليج وتوظيفه لخدمة مصالحها، خصوصاً أن القادة الإيرانيين سيكونون مستعدين لذلك مهما كانت الشعارات المعلنة والسياسات العلنية! ثانياً: لقد استقبل الشارع الإيراني الاتفاق الإطاري المبدئي بين «الولايات المتحدة الأميركية» و «طهران» بمقدار كبير من الحماسة والترحاب الشديدين، وعلى الرغم من انتقاد بعض العناصر المتشددة لمضمون الاتفاق وتزايد الإحساس بأن الجانب الإيراني هو الخاسر لأنه يسعى إلى تجميد المشروع النووي الإيراني لسنوات عدة، وفي المقابل فإن الرئيس الأميركي «أوباما» قد تلقى كثيراً من الانتقادات، خصوصاً من أعضاء «الكونغرس» المؤيدين لوجهة النظر الإسرائيلية، والذين يرون أن «إيران» دولة مراوغة ولن تلتزم بما نص عليه الاتفاق المبدئي والواقع أن المواطن الإيراني قد فضل استقرار حياته الاقتصادية ورفع الحصار عن بلاده بديلاً عن الحديث المتكرر عن البرنامج النووي رغم كل ما كان يعنيه من كبرياء وطني لم تعد «إيران» - على ما يبدو - متمسكة به كما كانت من قبل لأن الظروف الاقتصادية والمعيشية أصبحت في مقدم تطلعات المواطن الإيراني حالياً. ثالثاً: إن الظروف الدولية والعوامل الإقليمية تلعب دوراً مهماً في إمكان نجاح الاتفاق الأخير بين «طهران» و «واشنطن»، إذ إن منطقة الخليج والجزيرة تبدو كلها ملتهبة بأحداث «اليمن» التي تدعم فيها «إيران» «الحوثيين» وتقف وراءهم مادياً ومعنوياً، وهو أمر يجعل الموقف في المنطقة محفوفاً بالأخطار ويؤثر في شكل مباشر في الدور الإقليمي المنتظر للدولة «الفارسية»، كما أن الكثير من الاحتمالات يحيط بالمنطقة في ظل الوضع في كل من «العراق» و «سورية»، فضلاً عن التوترات القائمة في دول ثورات الربيع العربي، إننا أمام مشهد ملتبس قد لا تخرج منه إيران رابحة بالمرة. رابعاً: لقد اكتسبت السياسة الخارجية الإيرانية سمعةً غير مريحة لدى بعض دول الخليج وفي «مصر»، وربما لدى قطاعات كبيرة في «الأردن» و «لبنان» و «سورية»، لأن تلك السياسة اتسمت بالرغبة الدائمة في دس الأنف في كل شيء، أما في دول أخرى فهي داعمة «الحوثيين» وقبل ذلك هي مسيطرة إلى حد كبير على مفاصل الدولة العراقية والشريك الفاعل في الأزمة السورية الدموية، وعلاقتها بالقضية الفلسطينية علاقة وثيقة من خلال تأثيرها في قطاعات في المقاومة، خصوصاً في إطار حركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي» وغيرهما. إن هذه السياسة الإيرانية الملتبسة أدت إلى توترات دائمة ومشكلات بغير حدود وتركت بصمات سلبية على علاقات إيران بجيرانها، بحيث أصبحت متهمة بأنها تملك أجندة تسعى إلى الهيمنة على مناطق مختلفة من الوطن العربي، خصوصاً في مشرقه كما لم يخلُ نشاطها السياسي من الوجود أيضاً في الدول الأفريقية الإسلامية، فضلاً عن أنها عامل فاعل في امتداداتها بدول غرب «آسيا» وصولاً إلى وسطها، خصوصاً في أفغانستان» و «باكستان». فلقد اختار الإيرانيون طريقاً منفرداً في التعامل مع القوى الإقليمية والدولية منذ قيام الثورة الإسلامية ولقد كانت النتيجة دائماً هي حدوث أزمة ثقة بين العرب و «الفرس» لتأكيد صراع قومي تاريخي لا صراع طائفي جديد. خامساً: إن العلاقات بين «طهران» و «واشنطن» مرشحة للصعود، فكلا الطرفين يتطلع إلى الآخر برغبة مكتومة تسعى إلى نوع من التحالف على المدى الطويل، ولكن الطريق ليس سهلاً لأن الظروف معقدة والمنطقة ملتهبة وهناك رفض داخلي لهذا الاتجاه في كلا الدولتين أيضاً، خصوصاً أن سياسة «ترطيب الأجواء» غير مقبولة فلا بد من البحث في الجذور حتى يمكن التعرف إلى الأسباب الصحيحة لكل سياسة بل كل موقف، لقد تعثرت التجربة الإيرانية بسبب التقلبات الدرامية في سياسات المنطقة. سادساً: لم تعد تقنية أي مشروع نووي لغزاً غامضاً، بل أصبحت ملفاً ميسوراً لكل من يملك مواردَ تغطي النفقات الباهظة للمشروع، فضلاً عن وجود قاعدة علمية استطاعت دول عدة استيرادها من خارجها، وبذلك فإن مسعى «إيران» ليس مسعى جديداً في المنطقة الآسيوية فقد سبقتها «الصين» و «الهند» و «باكستان»، كما أن حاجز الإمكانات المادية لم يعد حائلاً أيضاً ولعلنا نتذكر كيف وقف الباكستانيون على أطراف أصابعهم لأكثر من أسبوعين وهو الفارق بين التفجيرين الهندي والباكستاني فنحن لا ننكر أن قضية حيازة سلاح نووي أصبحت هاجساً يسيطر على دول كثيرة في عالمنا المعاصر، بل إننا نحن العرب نبدو أحوجَ ما نكون لذلك، خصوصاً في ظل حيازة «إسرائيل» سلاحاً نووياً وتلويح «إيران» هي الأخرى بذلك، لكن القضية في النهاية تتوقف على الإرادة السياسية الوطنية وردود الفعل المحتملة خارجياً ولا يمكن أن نكون نحن العرب متفرجين في منطقة محصورة بين إسرائيل النووية و «إيران» المتطلعة نووياً لأن القضية في النهاية تتصل بالعناد القومي والقدرة على مواجهة أطراف أخرى من خلال وجود سياسة التوازن النووي القائم على إمكانية الردع المتبادل، لذلك فإن حيازة الدول العربية مشروعاً نووياً ولو مشتركاً بين «مصر» و «السعودية» و «الإمارات» كنموذج يمكن التعويل عليه، أمر يمكن أن يقلب موازين القوى تماماً في المنطقة ولكننا ندرك، في الوقت ذاته، حجم المعارضة الغربية والتآمر الإسرائيلي على احتمالات هذا المشروع. سابعاً: لا تستطيع «إيران» أن تتباهى بمسعاها لبرنامج نووي قومي يمكن أن ينتج منه سلاح نووي تدعي «إيران» أنه السلاح النووي الإسلامي الأول فقد سبقتها في ذلك دولة «باكستان» ولم تعد «إيران قادرة على حشد تأييدٍ لبرنامجها مستندة إلى مشروع له طابع ديني ولعل ذلك يفسر افتقادَ المشروع الإيراني الشعبية الدولية. ويكفي أن نتذكر أن حجم المخاوف من المشروع الإيراني ليس مقتصراً على الغرب وحده، ولكن دول الجوار لديها هاجسٌ مماثل في ظل تفرد النظام الإيراني «بأيديولوجية» دينية ذات طابع خاص لذلك لا يحظى بالاهتمام ذاته الذي حظيت به مشاريع أخرى من قبل وفي مقدمها المشروع الهندي، فدخول العصر النووي والالتحاق بناديه المغلق ليس أمراً ميسوراً في ظل الأوضاع الدولية الراهنة والاضطرابات الإقليمية التي لا تخلو منها منطقة بذاتها، إننا أمام عالمٍ مزدوج المعايير يكيل بمكيالين ولا مكان فيه إلا لمن يستطيع أن يواجه الأوضاع المختلة على الخريطة السياسية الدولية. هذه قراءة استدعتها تطورات المشروع النووي الإيراني والاتفاق الأخير بين «إيران» و «الولايات المتحدة» الذي جرى التمهيد له أخيراً، حيث نظن من وجهة نظرنا أن «إيران» هي الأقل مكسباً وأن «الولايات المتحدة الأميركية» إذا نجحت في استكمال مراحل توقيع ذلك الاتفاق، فإنها ستكون قد عطلت البرنامج النووي الإيراني لعشر سنوات على الأقل ووضعته تحت الرقابة المباشرة «للوكالة الدولية للطاقة الذرية»، وهو هدف غربي طال انتظاره، أما حالة الفرح التي سادت بعض القطاعات الشعبية في «إيران» فمردها إلى الرغبة في الخلاص من قيود الحظر وربما الخلاص أيضاً من ضغوط البرنامج النووي واحتمالات تعريض «إيران» لضربة عسكرية إسرائيلية سيقل احتمالها بالضرورة بعد توقيع ذلك الاتفاق. إننا أمام احتمالات مفتوحة، لكن الأمر المؤكد هو أن الشعب الإيراني اختار الحياة الأفضل على حساب الكبرياء الوطني! *نقلاً عن "الحياة"