مع إعلان المملكة العربية السعودية عن انتهاء العمليات العسكرية المعروفة باسم «عاصفة الحزم»، بعد نحو أربعة أسابيع من انطلاقها، يمكن القطع بأن مرحلة جديدة في التاريخ العربي المعاصر قد بدأت. هل يمكن أن نبلور المشهد في عدة ملاحظات؟ أولاً: يمكن القطع بأنه قد أضحت هناك قدرة عربية واضحة وضوح الشمس في ضحاها، على التكتل والحشد العسكري العربيين بسرعة وفاعلية غير مسبوقة إزاء التهديدات القائمة أو المقبلة، ووفق رؤية عربية جماعية، تفضل وتغلب المصلحة العليا للعرب، وتأخذ في تقديرها متغيرات الزمان وتبدلات المكان. ثانيًا: جاءت «عاصفة الحزم» لتقيم مقارنة بين الاتكاء العربي - العربي، في مواجهة الملمات، والاتكال العربي على الوكيل الأجنبي الذي تمثل عادة في الولايات المتحدة، والفارق هنا بين استدعاء قوات التحالف الدولي لمواجهة العراق بعد غزوه للكويت ومواجهة الانقلاب في اليمن، كبير جدا، ويؤشر لحالة الاستعداد والجهوزية العربية. ثالثًا: أفرزت العمليات العسكرية التي قادتها المملكة العربية السعودية حقيقة مؤكدة تتمثل في نأي واشنطن عن الدخول في مغامرات عسكرية في الشرق الأوسط في العقود المقبلة، إذ كان الدعم الأميركي لـ«عاصفة الحزم» يكمن في تقديم المساعدات الاستخبارية أو اللوجيستية، مما يعني قولا نهاية زمن الاستعلان الأميركي في الشرق الأوسط بالصورة التي عرفتها المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. رابعًا: خلقت عاصفة الحزم واقعًا عربيًا جديدًا، استطاع الملك سلمان تخليقه في الفضاء الخليجي والشرق أوسطي بل والإسلامي، عماده ضخ المزيد من الحيوية في السياسة الخارجية للمملكة، الأمر الذي مكّن من جمع الشمل العربي ومواجهة التحديات التي ظهرت على السطح دون تهوين أو تهويل، ويحسب لخادم الحرمين الشريفين قدرته على جمع الأضداد، إذا كان الأمر يتصل بهدف جوهري، كما التوفيق بين مصر وتركيا ضمن المعسكر السني في العاصفة. خامسًا: أظهرت العملية نجاح طرح التكامل العربي، سياسيًا وعسكريًا، ماليًا وبشريًا، مما يعني أن زمن «الاتحاد» الذي يقود إلى «الوحدة»، ربما بات على الأبواب بالفعل، ذلك أن تعريف الأهداف، وتحديد الأولويات، هما البداية السديدة لأي استراتيجية ناجحة. سادسًا: أظهرت طريقة العمليات العسكرية وطبيعتها أن الهدف لم يكن إنجاز انتصار عسكري مشبع بروح الانتقام، بقدر ما كان التمهيد لتسوية سلمية حقيقية بين أطراف عربية - عربية متصارعة في الوطن الواحد، وبما لا يمكن من لهم مصالح لا تغيب عن أحد من عملية الاختراق للنسيج العربي، فاليمن شعب عربي شقيق، وإلحاق الضرر به لم يكن على خريطة الأهداف. سابعًا: ارتفع في عنان السماء بعد عملية «عاصفة الحزم»، معنى ومبنى «فائض القوة» عربيًا وإسلاميًا، وهو أمر يجب أن يوظف مستقبلاً على النحو الصحيح، ذلك أن مشهد القوة العسكرية العربية، مضافًا إليه مساهمات باكستان، حتمًا سيقرأ في عواصم بعينها في الإقليم، وسيبعث برسالة مفادها أن أي تسويات سياسية لملفات شقاقية لن تكون على حساب العرب، كما أن الانسحاب التكتيكي لواشنطن من المشهد الشرق أوسطي لن يسبب خللاً تكتونيًا في المنطقة، بل إن هناك قوى عربية - إسلامية قادرة على ملء الفراغ النسبي المرتقب حدوثه. ثامنًا: أحدثت نجاحات عملية «عاصفة الحزم» مقارنات جبرية مع غارات التحالف على «داعش»، وبينت عدم وجود رغبة جدية في إنهاء ظاهرة الدولة الإسلامية المزعومة، فما قامت به قوات التحالف العربي في أربعة أسابيع حقق إنجازات على الأرض أمضى وأفعل من تلك التي قادها التحالف الدولي عبر عدة أشهر، مما يخلق تساؤلات غير بريئة حول استخدام «داعش» كأداة، بأكثر من نية القضاء عليها، فالضربات المتراخية للقوات الدولية بدت شبيهة بعملية تحديد مناطق للنفوذ، وتقييد لحركة التنظيم وتحجيم قدراته القيادية وليس القضاء عليه. تاسعًا: كشفت «عاصفة الحزم» عن هشاشة التقديرات الاستخبارية لطهران بنوع خاص في الإقليم، الأمر الذي سيسبب لها ولا شك خسائر استراتيجية في الأيام المقبلة، أقلها ترسيخ صورة للمظلة الإيرانية العاجزة عن دعم حلفائها في الشرق الأوسط، ذلك أنه شتان الفرق بين التشدق الأجوف بالإمبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد، واعتراف وزارة الاستخبارات والأمن القومي الإيرانية بعد بدء «عاصفة الحزم» بأيام بأنها لم تكن على علم مسبق بالعملية، عطفًا على نفوذها وسيطرتها العسكرية على منطقة الخليج في أربع وعشرين ساعة، كما اعتادت الصياح من قبل، مما يحطم مفهوم الردع الإيراني إلى أبعد حد ومد. عاشرًا: انتهاء عمليات «عاصفة الحزم» لا يعني أن كل الأمور من حول اليمن قد أضحت سخاء رخاء، بل حكمًا سيتطلب المشهد بقاء قطع عسكرية قريبة من باب المندب، فهناك دائمًا فترة انتظار بعد انتهاء أي عملية عسكرية، قد تطول أو تقصر بحسب النتائج السياسية المترتبة على العملية ذاتها، وحتى لا تحدث انتكاسات عسكرية مبكرة، أو تجد الأسلحة طريقها من جديد للحوثيين. هل يدعو المشهد العربي للتفاؤل؟ ربما أفضل توصيف هو «التفاؤل المأساوي» (Tragic Optimism) وهو مصطلح مأخوذ من مسرحية روسية عرضت عام 1967 وفحواها أنه خلال الثورات والفورات عادة ما تحدث خسائر وتعديات، إلا أن أي مشروع مستقبلي ناجح سوف يغطي لاحقًا تكاليف خسائره، بمعني أن التفاؤل مدفوع الثمن مقدمًا، بشكل أو بآخر من أشكال مكر التاريخ. *نقلاً عن "الشرق الأوسط"