رحل رفيق الحريري عن لبنان قبل ما يزيد على عشرة أعوام، وما زالت قضية اغتياله منظورة في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وهي من القضايا التي لا يحوم الشك كثيراً حول منفذها، ولكنها تحتاج إلى ربط الخيوط بعضها ببعض، ويأتي الوضوح في مسؤولية القتل لما حصل من استنساخ لعمليات التصفية، إضافة إلى كونها دائماً ما تصيب تياراً واحداً في لبنان. المقتولون، أو من نجوا بأعجوبة كمي شدياق ومروان حمادة، جمع بينهم أنهم قالوا (لا) يوماً ما، لا للوجود السوري في لبنان، لا لتشكيل الحكومة اللبنانية بقرار دمشقي. القتل لم يستثنِ من قال (لا) بفعله السياسي مثل الرئيس الحريري وجورج حاوي وبيار الجميل وغيرهم، ولا من قال (لا) بقلمه مثل سمير قصير وجبران تويني، ولا حتى رجال الأمن الذين كانوا قريبين من التوصيل إلى سيناريو القتل، وربط الأحداث والأشخاص والاتصالات القائمة بينهم، وأشهرهم النقيب وسام عيد. وخلال الأسابيع القليلة الماضية استجوبت المحكمة الشهود في قضية الحريري، كان أهمهم فؤاد السنيورة رئيس الحكومة الأسبق، وتحسين خياط رئيس مجلس إدارة قناة الجديد، وهي القناة التي بثت حلقات عن اغتيال الحريري وكشفت خلالها عن هويات شهداء مزعومين، وعرضت الحلقات في الفترة من 5-10 آب (أغسطس) 2012، والتي حاول من خلالها تضليل القضاء حول المتهمين. وبحسب النشرة الشهرية الصادرة عن المحكمة الخاصة بلبنان في آذار (مارس) الماضي، أشار السنيورة -والذي كان وزيراً في كل حكومات الحريري من 1992- إلى أن الحريري كان هدفاً لعمليات اغتيال عدة من حزب الله في نهاية 2003 ومطلع 2004، وتمثل تلك الفترة المنعطف في علاقة الحريري بسورية. والتي أصبحت منذ اقتراب بشار الأسد من الحكم، والذي التقاه الأسد للمرة الأولى في 1999 وبعد اللقاء قال الحريري: «سورية سيحكمها ولد»، وهذا بحسب رواية باسم السبع أمام المحكمة الدولية، والفرق بين بشار الأسد ووالده، أن حافظ ظل دائماً قادراً على حفظ التوازن بين علاقاته العربية وتحالفه مع إيران، بينما بشار ارتمى في حضن إيران وأحرق مراكبه. بشار الأسد يمثل الجيل الثاني من أبناء الديكتاتوريين، وهو الوحيد الذي نجح في تولي مقاليد الحكم بعد والده، بينما فشل قصي صدام حسين وسيف الإسلام القذافي، وبدرجة أقل ديكتاتورية جمال مبارك، ومازال الأفعى صالح يسعى لكي يحكم اليمن نجله أحمد. هذا الجيل الثاني من الديكتاتوريين يتميز بامتلاكه قناعاً حضارياً، فتجدهم يدرسون في الغرب ويصطافون فيه، ولا يستخدمون خطاب الإمبريالية بالقدر الذي استخدمه آباؤهم، وإن كانت أميركا دوماً شماعة جاهزة لأي قمع أمني في رابعة النهار، ولو أكملوا بقية الليل يسمرون معها، هذه الوجوه، ولاسيما بشار الأسد وسيف الإسلام، أوحت للشعوب لوهلة أن التغيير ممكن من الداخل. بشار الأسد حين حكم لم يغير هيكلة النظام الأمنية، ومن ثم لم يتغير في تعاطيه مع مظاهرات درعا، والتي ربما لو زارها مع زوجته واعتذر لما صارت ثورة، ولكن الاعتذار كثقافة في النظام البعثي سيقود إلى ضعف النظام. خلال أعوام الأزمة السورية كان بشار الأسد يقتل السوريين ويشردهم، على قاعدة الأسد أو يُحرق البلد، دافعاً على مسار آخر بحملات ضخمة للعلاقات العامة في الغرب، مصدراً نفسه كآخر معاقل العلمانية في الشرق، والحامية للأقليات الدينية والإثنية، وكان داعش بهاراً كافياً لتكون الطبخة جاهزة، باعتباره يقاتل الإرهاب والتطرف. بشار يذكر ذلك، وهو يقتل كل شاهد محتمل أن يدينه، وآخرهم رئيس شعبة الأمن السياسي السابق في الجيش السوري، العميد رستم غزالي، وسبقه كثيرون منهم آصف شوكت صهر الرئيس، واللواء جامع جامع ثالث شهود قضية الحريري، هذا ما يخص ذهنية الأسد، لكن على مستوى قادة النظام يبدو أن بعضهم حنق من ارتهان سورية بالكامل لإيران، وهو سبب آخر لاغتيال رستم غزالي، بعد رفضه السماح لقوات من إيران و«حزب الله» بالتمركز داخل منزله في مرتفعات بلدة قرفا في محافظة درعا وتفجيره لمنزله. نقلاً عن صحيفة "الحياة"