رأيت مصر للمرة الأولى منتصف السبعينات من القرن العشرين. سافرتُ في رحلة طالبية نظمتها جامعة الملك سعود. سكنّا في مدينة البحوث الإسلامية التابعة للأزهر. في تلك الرحلة زاد تعلّقي بالمسرح الذي شاهدته للمرة الأولى في حياتي. في عام 1979 أُعلِن عن مسرحية «إنها حقاً عائلة محترمة» لفؤاد المهندس. قررتُ أن أحضرها، وأشاهد مهندس المسرح المصري مباشرة. في تلك الزيارة لفتت نظري «معاكسات» سائقي سيارات الأجرة للبنات في الشارع. كانت المعاكسات تتسم بخفّة الدم، ليس فيها «تحرش» بالمعنى الذي تعانيه المرأة اليوم في كل المدن العربية. كان أشبه بالمزاح، وإن شئت، الغزل العفيف. تبتسم الفتاة بخفْر، وتُهمِل «المعاكس» كأن الأمر لا يعنيها. في أحد المشاوير كان السائق الكهل يتمتع بخفة الدم. خلال الطريق المزدحم، بدأ يمارس هوايته في «مناغشة البنات»، وفق تعبيره. قلت له: أنت تضايق الفتيات بهذه الطريقة. ضحك قائلاً: «يا ابني البت اللي ما تتعاكسشي في الشارع تروح البت تعيَّط، أحنا بنقول لها يا حلوه عشان نشجعها وننغنشها». وأضاف: «صلي على النبي، أحنا ما بنقصدش حاجة، لا سمح الله، الحكاية تسالي يا باشا». هذا السلوك ذكّرني بآخر مماثل، يجري بين أبناء البادية في صحرائنا، كانت هناك معاكسات عفيفة، إن صح التعبير. لا عدوان فيها، أو تجريح. تمتدح جمال المرأة، ولا تؤذي مشاعرها، أو تكسر كبرياءها. تذكّرت تلك الرحلة بعد قراءة مقال نُشِر في جريدة «الشروق» المصرية، الأربعاء الماضي، بقلم الصحافية المصرية آلاء سعد، بعنوان «أنا لست «عاهرة»... وأعرف جيداً مكان السفارة». وهي رَوَت فيه معاناتها مع «التحرش»، و كتبت: «بدأَتْ الحكاية حين قادني طريقي المعتاد قبل أيام للمرور من هذا الشارع المُسمى «توفيق دياب»، والذي يشبه «الثكنة العسكرية»، ليمارس أحد أفراد الأمن الموجودين مهمته المُعتادة كـ «مُتحرِّش»... تخيَّلوا معي المشهد، التوقيت، نهار خارجي، المكان، شارع بغاردن سيتي، الأبطال، فرد أمن يتحقق من رخصة السيارات المارة إلى الشارع المقابل للسفارة، وزملاؤه من قوة التأمين وللأسف أنا». وتضيف: «فرد الأمن ينظر إليَّ نظرة متفحّصة لا يمكنك أن تخطئ مدى انحطاطها مهما كنت في حاجة لإجراء جراحة تصحيح إبصار، ويبدي تعليقاً بصوت لم يحجبه صوت سماعات». وبعد مضايقات وتحقيقات ومحاضر وتهديد بالتوقيف، تُنهي آلاء الموقف على مضض قائلة: «بالفعل منعني الغثيان من إكمال المعركة، ربما لأنها يومية ولأنني مُنهكة بما يكفي، لكنني وإن لم أتمكن من خوضها حتى النهاية، ولأن الخصوم آنذاك أكثر من محاولة اقتيادهم إلى جهة في كوكب موازٍ تأتي لي بحقي، أؤكد لكم حضرات السادة الأفاضل أنني «لست عاهرة!». لا شك في أننا تراجعنا قروناً في تعاملنا مع المرأة واحترامها. التحرش اليوم في الرياض والقاهرة ومدن أخرى عربية، يؤشّر إلى أن المرأة أصبحت تواجه إرهاباً أشد من «الإرهاب» اسمه التحرش. قوانين التحرُّش في دولنا ما زالت دون مستوى فداحة الجريمة. وهي بحاجة إلى معاودة نظر، فضلاً عن أن دولاً عربية كثيرة ليس فيها قانون أصلاً. أين أنت يا عمر، تخشى أن تعثر دابة في العراق. ترى ماذا ستقول لو عرفتَ أن بناتنا ونساءنا يجري التعدّي عليهن وسط المدن وفي وضح النهار، ولا أحد يجيرهن من هذا العدوان. *نقلاً عن "الحياة