ربما كنّا، منذ التاسع من نيسان العام 2003 أفضل بلد في الشرق الأوسط على صعيد حرية التعبير.. كان هذا بسبب إجراءات اتخذتها سلطة الاحتلال التي ألغت وزارة الإعلام وأصدرت قرارات ضمنت حرية التعبير بالأشكال المختلفة، وبالذات عبر الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى. بقينا على هذي الحال سنوات عدة قبل أن تكشّر حكومة السيد نوري المالكي الثانية عن أنياب طويلة وأظافر حادة على هذا الصعيد .. حدث ذلك على وجه الخصوص يوم قرر عشرات الآلاف من العراقيات والعراقيين التمتّع بحقوق كفلها لهم الدستور الذي استفتي عليه الشعب أواخر العام 2005، بتنظيم تظاهرات سلمية، ابتداء من شباط 2011، للمطالبة بتحقيق الوعود الانتخابية والبرنامج الحكومي وتوفير الأمن والخدمات العامة، ووضع حدّ لهدر المال العام ونهبه عبر الفساد الإداري والمالي، وإصلاح العملية السياسية وتعديل مسارها المنحرف. تلك الحكومة تعاملت مع المتظاهرين بالطريقة المألوفة التي اعتادت عليها الحكومات الدكتاتورية، باللجوء الى القمع والعسف، وهو ما طال مؤسسات إعلامية وإعلاميين لم يرتكبوا أي ذنب ولم ينتهكوا أي قانون... كانوا فقط يقومون بواجبهم في نقل ما يجري في ساحات العاصمة والمدن الأخرى وشوارعها. بعد ذلك اندفعت تلك الحكومة بقوة لتشريع قوانين مقيّدة للحريات التي أقرّها الدستور، فضغطت لتشريع قانون "حقوق الصحفيين" الذي تحوّل في التطبيق الى قانون للحدّ من حقوق الصحفيين، وسعت لتشريع قوانين أخرى (جرائم المعلوماتية وحرية التعبير)، التي لو شُرّعت لكانت وصمة عار كبرى في جبين كل فرد من أفراد الطبقة السياسية المتنفذة، لأنها بكل بساطة لا تليق إلا بنظام من نمط نظام صدام حسين... باختصار فان من مفارقات عهدنا "الديمقراطي" ان ما منحتنا إياه سلطة الاحتلال، على صعيد حرية التعبير، عملت لسلبه "سلطتنا" الوطنية! ربما لم نزل البلد الأفضل في المنطقة على صعيد حرية التعبير، ليس فقط بدلالة مبادئ الدستور وأحكامه وقرارات سلطة الاحتلال النافذة، وإنما أيضاً لأن الحكومة الحالية لم تشأ أن تقتفي آثار سابقتها.. ثمة تحسّن لا بأس به في هذا المجال.. لم نعد نرى قوات مدججة بالسلاح وبالوجوه الكالحة ترتاب في أمر الصحفيين حتى لو كانوا يصوّرون الأشجار النامية في شارع أبو نواس، وتطاردهم وتنتزع قمصانهم لتضربهم بهراواتها وتجعل منهم فرجةً للعالمين، ترهيباً لهم وتخويفاً لمن يراهم، ولم تعد المؤسسات الإعلامية تخشى من عمليات دهم لمقراتها من جانب القوات الحكومية (صار الخوف من قوات غير نظامية شاءت أن تأخد القانون بأيديها)! لكن هذا لا يكفي.. إنه لا يشكّل حتى الحدّ الأدنى المطلوب لكفالة حرية الصحافة، وسائر أشكال حرية التعبير. لا ديمقراطية من دون حرية التعبير، ولا حرية تعبير من دون حرية الصحافة، ولا حرية صحافة من دون حرية تدفق المعلومات (حرية الوصول الى المعلومات وحرية نشر المعلومات) التي هي حق ليس للصحفيين وعموم الإعلاميين حسب، وإنما لكل المواطنين. كل الكلام الذي سيقال اليوم، وهو اليوم العالمي لحرية الصحافة، عن تقدّمنا في طريق حرية التعبير في عهد الحكومة الحالية لن يكون ذا معنى من دون تشريع قانون يكفل حرية الوصول الى المعلومات لكل الناس وحرية نشر هذه المعلومات عبر وسائل الإعلام التقليدية ووسائط الإعلام الجديد. وهذا وحده لا يكفي أيضاً فلا مناص من ضمان حرية العمل الصحفي والإعلامي، المحكومة بأخلاقيات المهنة وبالقانون العام ولابدّ من كفالة الحقوق المهنية والمعيشية للاعلاميين، وهذا ما يتطلب إعادة النظر جذرياً في القانون المسمى "حقوق الصحفيين" ليكون اسماً على مسمّى، بخلاف ما هو عليه الآن. *نقلاً عن صحيفة "المدى"