بسبب فقدان العلاقة الشخصية بين المواطن البريطاني وممثله السياسي في مجلس العموم، إزداد تأثير الصحف على توجهات الناخبين بحيث شكلت وسائل الاعلام - المكتوبة والمرئية - حيزاً عريضاً تزيد نسبته على أكثر من ثلاثين في المئة. وبما أن روبرت مردوخ، المالك لأكبر كمية من الصحف في العالم، قد زار لندن بطريقة خفية، فقد ربط المحللون توقيت زيارته باللقاءات التي أجراها مع مدراء صحفه البريطانية والممثلة بـ «التايمز» و»الصن» و»الصانداي تايمز» وقناة «سكاي». ويؤكد مساعدوه أن مردوخ يعتمد على جريدة «الصن» لتبيان مواقفه السياسية. لذلك ظهرت هذه الصحيفة بوجهين مختلفين، بدليل أنها أيدت حزب المحافظين من جهة، ولكنها دعمت الحزب القومي الإسكتلندي من جهة أخرى. أي الحزب الذي تتزعمه الوزيرة الأولى نيكولا سترجون التي حصلت على 56 مقعداً من مجموع 59 مخصصة لاسكتلندا. وهي نسبة مؤثرة إذا ما علمنا أن عدد مقاعد البرلمان هو 650 مقعداً. يقول المؤرخون إن الذاكرة الجماعية للشعب الإسكتلندي تتوارث حكاية صِدام دموي جرى في مدينة غلاسكو يوم 31 كانون الثاني (يناير) 1919. يومها تجمع آلاف المتظاهرين في ساحة الملك جورج بعدما إنضم اليهم عمال السفن وجنود مسرّحون من الخدمة، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وكان من المتوقع حصول إشتباكات مع الشرطة التي إتهمت المحتجّين بالتمرد والعصيان، كون الغالبية بينهم تنتمي الى الحزب الشيوعي. وذكِر في حينه أن الشرطة استخدمت أقسى وسائل القمع والترهيب، بعدما اعتقلت كبار قادة اتحاد العمال. ويبدو أن الزمن لم يعمل لصالح محو تلك الحادثة، بدليل ان زعيم الحزب القومي الإسكتلندي والوزير الاول الكسي سالموند كاد يفوز في الانتخابات الأخيرة تحت شعار الانفصال عن بريطانيا. ولكن ما دخل تلك الواقعة التاريخية بانتخابات يوم الخميس الماضي؟ العقدة السياسية التي يواجهها الحزبان التقليديان - أي حزب المحافظين بزعامة ديفيد كاميرون وحزب العمال بزعامة اد ميليباند - هي عجزهما عن الفوز بغالبية تبعدهما عن تشكيل حكومة ائتلافية. تماماً مثلما حدث في انتخابات سنة 2010 عندما اضطر المحافظون الى التحالف مع الليبراليين الديموقراطيين بزعامة نك كليغ، الذي تولى حينها منصب نائب رئيس الوزراء. في حملته الانتخابية حرص ديفيد كاميرون على اتهام منافسه ميليباند بأنه سيختار زعيمة الحزب القومي الإسكتلندي للتحالف معها. وادعى أن نيكولا ستيرجن وعدت ميليباند بالدعم الانتخابي، والفوز على المحافظين في حال عقد تحالفاً مع الحزب الذي تمثله. ورغم نفيه لهذه الإشاعة، فان الأحزاب الاخرى ظلت مصرة على إتهام الفريقين بعقد صفقة سياسية سرية! خبير الشؤون الانتخابية، فريزر نيلسون، كتب مطلع هذا الأسبوع تحليلاً في المجلة اليسارية «نيوستاتسمان» يشرح فيه الأسباب التي أدت الى تراجع شعبية كاميرون. وقال إن رئيس الوزراء كان يعوِّل كثيراً على اعتراف الشعب بسجل الإنجازات التي تحققت خلال السنوات الخمس الماضية. وهي تتمحور حول إيجاد فرص عمل لمليوني شخص. إضافة الى قائمة الإيجابيات التي بدأت بوقف التضخم، وانتهت بازدياد نسبة النمو والإعمار في لندن وسائر المدن. كذلك يفاخر كاميرون بأن حكومته كافحت الجريمة بأساليب مجدية ساعدت على تقييد نشاط المخلين بالنظام والمتجاهلين لسلطة القانون. وتساءل نيلسون في تحليله عن الدوافع التي قادت الى تراجع شعبية حكومة المحافظين، والى تأجيل المبادرات السياسية المحفوظة في ملفات الولاية الثانية. وكان كاميرون قد أعلن مراراً وتكراراً عن حرصه على إجراء إستفتاء حول مستقبل عضوية بريطانيا في الاتحاد الاوروبي. وادعى أنه سيطرح هذه المبادرة على الاستفتاء سنة 2017، الأمر الذي يشير الى اقتناعه بفوز كاسح ضد منافسه العمالي يوم الخميس الماضي. والمؤكد أن زعيم حزب الديموقراطيين الليبراليين، نك كليغ، قد أعرب عن رغبته في دعم هذه المبادرة شرط الحفاظ على ما يعتبره «الخطوط الحمر»، أي تحقيق عدالة واسعة في الموازنة السنوية ورفع أجور موظفي القطاع العام. ورد ميليباند على هذه الطموحات بالقول إن منافسه يقود البلاد الى الفوضى، وإن مبادرته معدة خصيصاً لإرضاء الأقلية الثرية، لا لإرضاء الغالبية الفقيرة. والثابت من طبيعة الحملة الانتخابية أن زعيم العمال إستبدل شعار التخويف من نجاح المحافظين بشعار التودد للغالبية الفقيرة ولمعالجة ظروف العاطلين عن العمل. وهاجمه ديفيد كاميرون قبل يومين من موعد الانتخابات، متهماً إياه بإعادة عقارب الساعة الى الوضع الذي أفرز مارغريت ثاتشر، أي الى الوضع الذي استولى فيه قادة الاتحادات العمالية على الشارع. خلال اليومين الأخيرين من حملات الأحزاب الكبيرة والصغيرة في بريطانيا تراجعت فكرة إجراء إستفتاء على عضوية الاتحاد الاوروبي. والسبب أن أزمة اليونان الاقتصادية قد تحدث تصدعاً وشللاً في منطقة اليورو، وأن موسكو قد تغامر بلعب دور المنقذ إذا كانت النتيجة تفكيك الاتحاد الاوروبي. على كل حال، لا تبدو الولايات المتحدة متحمسة للنتائج التي يحصل عليها حزب المحافظين، رغم الصداقة الشخصية بين كاميرون وأوباما. والسبب أن الشعب الأميركي يعتبر السابع من أيار (مايو) يوم شؤم وحزن، لأنه في هذا التاريخ من سنة 1915 أغرق الألمان أضخم باخرة ركاب كانت متوجهة من نيويورك الى ليفربول، هي الباخرة «لوسيتانيا». وقد مات أكثر من ألف ومئتي مسافر قبالة شاطىء إرلندا. وبما أن الادارة الاميركية قررت إحياء ذكرى تلك الحادثة المشؤومة، فان الخميس الماضي صادف مرور مئة سنة على غرق الباخرة التي شجعت الولايات المتحدة على دخول الحرب العالمية الأولى. في ضوء تلك الحادثة يتوقع المراقبون أن ينخفض مستوى العلاقة التاريخية الخاصة التي بدأت أثناء الحرب العالمية الثانية بين وينستون تشرشل وتيودور روزفلت. كما يتوقعون للحلف الذي عقده جورج بوش الابن مع رئيس وزراء بريطانيا العمالي طوني بلير، أثناء غزو العراق، أن يكون آخر تحالف بين دولتين يفصل بينهما المحيط الأطلسي. خصوصاً بعدما أثبتت الوقائع أن أوباما يريد لبلاده دوراً اقل تورطاً بمشكلات الشرق الأوسط... وأكثر ميلاً واندفاعاً نحو المشهد الآسيوي. قبل أسبوع من موعد الاقتراع صدرت الصحف البريطانية بعنوان متشابه خلاصته أن نسبة المترددين والحائرين وصلت الى أربعين في المئة. وإذا كانت هذه النسبة صحيحة فإن مواقف المسلمين البريطانيين تشكل الغالبية من نسبة المترددين والحائرين. والسبب أن حزب العمال وحده أشار في حملته الى التزامه بخيار الدولة الفلسطينية. وكان مكتب الإحصاء الوطني قد أعلن عن وجود ثلاثة ملايين مسلم بريطاني يشكلون ما نسبته خمسة في المئة من عدد السكان. والثابت أن الآسيويين إنخرطوا في الحياة السياسية، وقدموا للمجتمع البريطاني شخصيات متفوقة في الادارة ومجلس النواب. في حين لم تذكر الصحف سوى الدكتور رود أبو حرب، السوري الأصل، والمرشح عن دائرة كنسينغتون في لندن، وإبراهيم التاجوري، الليبي الأصل، والمرشح عن منطقة «برنت» عن حزب الديموقراطيين الليبراليين. توقعت الدوائر السياسية في بريطانيا أن تتكرر عقدة سنة 2010، أي ألا يحصل أيٌ من الحزبين الأساسيين على الغالبية المطلوبة بحيث يشكل الواحد منهما حكومة مستقرة. لذلك إضطر حزب المحافظن الى التحالف مع الحزب الثالث - من حيث عدد المقاعد - من أجل تأليف وزارة إئتلافية. غير ان النتائج النهائية جاءت مخالفة لهذه التوقعات اذ تمكن حزب المحافظين من الفوز وحده بأكثرية بسيطة تسمح له بأن يحكم وحيداً من دون الحاجة الى ائتلاف حكومي للسنوات الخمس المقبلة. ولم يكن «البرلمان المعلق» السابق يمثل وضعاً إستثنائياً. ذلك أن البريطانيين إنتخبوا سنة 1974 برلماناً معلقاً أيضاً. وبسبب العجز عن تشكيل حكومة مستقرة، أُجريت إنتخابات ثانية بعد ثمانية أشهر تقريباً. ويُطلق وصف «البرلمان المعلق» في بريطانيا على عجز أي من الحزبين الكبيرين عن الحصول على الاكثرية المطلوبة لتشكيل الحكومة. وبالمقارنة مع عقدة رئاسة الجمهورية اللبنانية، إبتكر السياسيون وصفاً مشابهاً يُختَصَر بهذه العبارة: «رئيس لبنان... لا معلق ولا مطلق!»