مع تخمتنا بالأحداث الكبرى التي تهزّ منطقة الشرق الأوسط، ينبو اهتمامنا عن قضايا بالغة الأهميّة ليست منطقتنا مسرحها، إلاّ أنّها لا بدّ أن تترك عميق الأثر فيها. وبعد كلّ حساب، وفي الحدّ الأدنى، صار يستحيل الكلام في يومنا هذا على قضيّة يقتصر أثرها في نطاقها الجغرافيّ. فقد صوّت البرلمان الفرنسيّ على قانون يقضي بتعزيز السلطات الأمنيّة في مراقبة المواطنين، بل التطاول عليها، لهدفٍ وصفه الإعلام بـ «منع الهجمات الإسلاميّة». وكان اللافت أكثر أنّ القانون هذا، الذي صيغ بعد ثلاثة أيّام على جريمة «شارلي إيبدو»، نال تأييد 438 صوتاً ولم يعارضه إلاّ 86. ولئن رأت الحكومة الاشتراكيّة أنّ القانون بات ضروريّاً مع التغيّر الذي طرأ على استخدام «الجماعات» تقنيّات الاتّصال، رأى فيه نقّاده توسيعاً للرقابة الجماعيّة يعطي الدولة الكثير من السلطات التدخّليّة، كما يهدّد استقلاليّة الاقتصاد الرقميّ. وما لبث مجلس العموم الكنديّ أن باشر التداول في قانون موصوف، هو الآخر، بمناهضة الإرهاب، قانونٍ استدعاه، كما يقول رعاته، هجوم العام الماضي على البرلمان. ويتيح القانون هذا لوكالة المخابرات الكنديّة أن تمدّ نشاطها التجسّسيّ إلى الخارج، وأن تقدم على توقيفات استباقيّة. وجدير بالذكر أنّ مجلس الشيوخ الكنديّ، الذي يسيطر عليه حزب المحافظين، مرشّح للموافقة على القانون قبل حزيران (يونيو) المقبل. وهنا أيضاً يمتدّ تجريم الإرهاب إلى فضاء الإنترنت، ما حمل أربعة من رؤساء الحكومات السابقين وخمسة من قضاة المحكمة الكنديّة العليا على توجيه رسائل عامّة تتراوح بين التحفّظ والتنديد، خصوصاً أنّ «الصياغة الغامضة» للقانون تمكّن الحكومة من استخدامه اعتباطاً. وهنا يظهر إجماعان بارزان، واحد على إخضاع التواصل الاجتماعيّ والعوالم الافتراضيّة للرقابة، وثانٍٍ على التلاقي بين يسار فرنسا ويمين كندا في موقف لن يعارضه يمين فرنسا ولا يسار كندا. وإذا صحّ ما يحذّر منه المحذّرون من أنّ وجهة كهذه تحدّ من الحقوق والممارسات الديموقراطيّة، فهي تترافق مع النكوص الذي تعانيه الثورات العربيّة، ما يؤكّد، مرّة أخرى، أنّ الوجهات الكبرى في عالمنا اليوم لا يمكن إلاّ أن تكون عالميّة، وإن تفاوت التعبير عنها بين منطقة وأخرى. صحيحٌ أنّ الأحداث التي أملت على الفرنسيّين والكنديّين أن يفعلوا ما فعلوه لا ترقى إلى سويّة الجريمة الإرهابيّة في 11/9. لكنّ الأخيرة، بوصفها النمط - البدئيّ، تستطيع أن تدلّنا إلى مدى الهستيريا التي يمكن أن تطلقها الأعمال الإرهابيّة في أيّامنا هذه. يكفي التذكير بأنّ جورج دبليو بوش الذي فاز بالرئاسة في أواخر 2000 بـ 537 صوتاً في ولاية فلوريدا، وصل إلى البيت الأبيض مطعوناً برئاسته، إذ تفوّق عليه منافسه آل غور بنصف مليون صوت على نطاق وطنيّ. إلاّ أنّ 11/9 حوّلت بوش من نابوليون في طوره الأوّل، أي كمغتصب للسلطة، إلى نابوليون في طوره الثاني، أي كهادم للعالم القديم ومحرّر للشعوب. ولئن قيل بحقّ إنّ هذه الصورة لم تعش طويلاً، بقي أنّها أدّت إلى حربين كبريين في أفغانستان والعراق، وإلى إخضاع الديموقراطيّة الأميركيّة نفسها لـ «القانون الوطنيّ» الشهير. فالإرهاب اليوم يكاد يكون من طبيعة إعجازيّة، لا يخفّف من ذلك تفنيد الظاهرة أو تبيان تهافتها. وهي وجهة لا زالت سارية المفعول على نطاق العالم الغربيّ كلّه، وإن بقدر من التفاوت. بيد أنّ الشيء المؤكّد أنّ حساباتنا لا تزال تضيق عن أخذها، وأخذ تداعياتها علينا وعلى العالم، في الاعتبار. *نقلاً عن صحيفة "الحياة"