عقب فوزه في الدورة الانتخابية السابقة، فاجأ ديفيد كاميرون الحكومة الإسرائيلية باتخاذ قرار لم يسبق أن اتخذه أي رئيس وزراء بريطاني منذ سنة 1901. وكتب مساعده رسالة إلى مؤسسة «كيرين كايميت» يبلغها فيها بأن موقعه الرسمي يحظر عليه رعاية هذه الجمعية، إضافة إلى الأسباب التي تمنعه من حصر عنايته بدولة واحدة محددة. الجالية اليهودية في بريطانيا اختلفت في حينه على أسلوب التعاطي مع ذلك القرار، واتفقت على منح كاميرون فرصة أخرى للتأكد من النهج السياسي الذي ستتخذه حكومته. وظهر على شاشات التلفزيون، بعد فترة، وزير الخارجية وليام هيغ ليصف الوضع الأمني في قطاع غزة بأنه «ليس أكثر من معسكر اعتقال إسرائيلي.» وفي مناسبة أخرى، وصف هيغ التفاهم الذي تم بين «فتح» و «حماس» بأنه خطوة متقدمة ترحب بها لندن. ومعروف أن إسرائيل كانت - وما زالت - تضغط على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس من أجل إبعاد «فتح» عن «حماس»، المصنفة منظمة إرهابية، كونها تدعو إلى تدمير دولة اليهود ولما عُرِضت مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، أيّد كاميرون هذا الاقتراح، انسجاماً مع موقف بلاده التقليدي منذ حرب 1967. لهذه الأسباب وسواها، اعتبرت الجالية اليهودية في بريطانيا أن حكومة ديفيد كاميرون ليست صديقة مخلصة لإسرائيل. لذلك، نقلت اعتراضها إلى الصحف العبرية، وأوحت لكتابها بضرورة مهاجمة رئيس الحكومة البريطاني الأول الذي يتجرأ على رفض رعاية جمعية يهودية! ولكن، ما هي أهداف هذه الجمعية... ومتى تأسست؟ تعود فكرة إنشاء جمعية «كيرين كايميت» إلى سنة 1897، أي إلى تاريخ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا. في حينه، اقترح عالم الرياضيات الحاخام الليتواني هرمان شابيرا إنشاء صندوق قومي يهودي يعتمد في تمويله على التبرعات. والغاية من ذلك شراء الأراضي في فلسطين. في المؤتمر الصهيوني الخامس (1901)، اقترح ثيودور هرتزل إنشاء الصندوق القومي اليهودي بحيث تخصص ودائعه لشراء الأراضي في فلسطين، شرط ألا تباع لغير اليهود. وتقرر في ذلك المؤتمر أيضاً تسجيل الصندوق باسم شركة بريطانية مخوَّلة جباية الأموال من أجل شراء الأراضي للمهاجرين. ومع صدور وعد بلفور ووقوع فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني، ازداد نشاط الصندوق بتشجيع من المؤتمر الصهيوني الذي عقِد في لندن سنة 1920. ولما اتسعت نشاطات العاملين فيه، داخل البلدان الأوروبية، وفي أوساط الجاليات اليهودية المنتشرة في أميركا الشمالية والبرازيل والأرجنتين... أصدرت إدارة الانتداب البريطاني تنظيمات جديدة تساعد على عمليات التحويل ونقل ملكية الأراضي وساعدت تلك الإجراءات في نقل مقر الصندوق إلى القدس سنة 1922، الأمر الذي ضاعف حجم القضم لمساحات شاسعة، وتحويلها إلى ملكية اليهود. وقد استغل الصهاينة سوء الأحوال الاقتصادية في فلسطين ليطبقوا نصائح هرتزل القائل: «سنحاول دفع السكان الفلسطينيين إلى الخروج من طريق إيجاد فرص عمل لهم في الدول المجاورة. وفي الوقت ذاته نحرمهم من ظروف العمل في فلسطين». بعد الفترة الممتدة من 1977 إلى 1981، قام الصندوق بشراء مساحات كبيرة من الأراضي في منطقة الجليل. وقد ساعدته شركة «هيمنوتاه»، المسجلة في لندن ورام الله، على تهويد القدس. ووفق المعلومات التي حصلت عليها وزارة الخزانة البريطانية، فإن موازنة الصندوق سنة 1981 بلغت 474 مليون دولار. ويُستدَل من طبيعة القرار الذي اتخذه كاميرون بإعلان استقالته من وكالة صندوق «كيرين كايميت» أنه كان عازماً على إلغاء تلك الرعاية. وبرر امتناعه بأسباب منطقية تتعلق بضرورة إنهاء المهمة القذرة التي حملتها الحكومات البريطانية منذ سنة 1901. ولما ارتفعت صيحات المعترضين بين الجالية اليهودية في بريطانيا، تصدى لهم اليساريون والمتعاطفون مع القضية العربية، وكتبوا ضدهم بيانات تقول: ألا يكفي ما فعله وعد بلفور الذي أعطى ممّنْ لا يملك لمَن لا يستحق... كي تضيف بريطانيا إلى ارتكاباتها رعاية صندوق ينهب أملاك أصحاب الأرض في فلسطين؟ بعد فوز ديفيد كاميرون، تساءلت الصحف المؤيدة له ما إذا كان فوز منافسه سيغير في مسار سياسة بلاده الخارجية تجاه القضية الفلسطينية. من الثابت أن التصريح الوحيد الذي أعلنه إد ميليباند عن فلسطين كان منسجماً مع الموقف التقليدي الذي اتخذته بريطانيا. ولقد تعمَّد ميليباند إبراز موقفه المؤيد لإقامة دولة فلسطينية بهدف ربح أصوات المجنسين من عرب وفلسطينيين. في حين تجاهل كاميرون في حملته هذا الموقف، خوفاً من خسارة أصوات يهودية ولو قليلة. كذلك حاول زعيم حزب العمال اجتذاب أصوات ثلاثة ملايين مسلم عندما وعدهم بأن يجعل من الترويج لمعاداة الإسلام جريمة يعاقب عليها القانون. وفي مطلق الأحوال، فإن ميليباند ظل بعيداً من توظيف أصوله الدينية خشية بعث الكراهية القديمة لليهود. وقد اعترف مراراً بأنه غير متديّن، وأنه يصنف نفسه بين الملحدين من غير المؤمنين. ومع هذا كله، فقد واجه زعيم حزب العمال السابق بعض حملات التجنّي ضد والده، مثل حملة صحيفة «الدايلي ميل» التي اتهمته بأنه متأثر بأفكار والده، الأكاديمي الماركسي الذي فرّ إلى بلجيكا هرباً من النازيين. ووفقاً للصحيفة، فقد كتب الوالد رالف ميليباند في يومياته يقول: «الرجل البريطاني قومي مسعور... وربما كان البريطانيون أكثر الشعوب قومية في العالم. ومع مرور الزمن، تعاظم هذا الشعور لديهم... أي شعور الاحتقار للشعوب الأوروبية الأخرى، خصوصاً بعد فقدانهم إمبراطوريتهم، وشعورهم بأسوأ أشكال الذل». وردّ ميليباند على حملة الصحيفة بالقول: «إن الاختلاف الحاد حول القضايا السياسية لا يبرر اغتيال شخصية مثل والدي، والتشكيك بوطنيته، خصوصاً أنه جازف بحياته من أجل بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية» ولم يقنع هذا الجواب إدارة التحرير في جريدة «الدايلي ميل» التي أعادت نشر مقالة الوالد تحت عنوان «إرث شرير». وحقيقة الأمر أن رالف ميليباند كان ماركسياً ملتزماً، وأكاديمياً معروفاً. وهو من أصل بولندي، إنما ولد في بلجيكا. وقد أجبرته أحداث الحرب على الهرب إلى بريطانيا سنة 1940. وبسبب وضعه المالي المتواضع اختار للسكن مع زوجته ماريون كوزاك منطقة «بريمروز هيل» في شمال لندن. وفي ذلك البيت، ولد ديفيد وإدوارد. ومع أن كليهما خدم في حكومة غوردن براون، إلا أن منصب إد كوزير للتغيير المناخي كان ثانوياً بالنسبة لمنصب أخيه الأكبر، وزير الخارجية. والطريف أن الأخوَيْن درسا المواد ذاتها في جامعة أكسفورد، هي الفلسفة والعلوم الاقتصادية والسياسية وعلى رغم أن ديفيد كان من أنصار توني بلير، إلا أن شقيقه بقي من أنصار غوردن براون. حدث في حزيران (يونيو) 2014 أن عقد حزب العمال مؤتمراً تحت شعار: أصدقاء إسرائيل من حزب العمال. وارتجل إد ميليباند كلمة قال فيها: في حال نجحت في الوصول إلى رئاسة الحكومة، فأنا عازم على تقوية علاقات بريطانيا بإسرائيل، وإزالة المقاطعة عن بضائعها وصادراتها، ومعارضة كل قرار يدعو إلى عزلها سياسياً. وسأعمل جاهداً، داخل حزب العمال، على وقف التشكيك بحق إسرائيل في الوجود والبقاء. ثم توقف فجأة ليكمل: وبصفتي يهودياً وصديقاً لإسرائيل فأنا أملك الحق لانتقاد هذه الدولة عند الضرورة، وأهاجمها إذا هي قتلت الأبرياء من الفلسطينيين، أو إذا هي صنفت «حماس» بين المنظمات الإرهابية. ويعترف ميليباند الذي انتُخِبَ أول يهودي لزعامة حزب العمال أنه يعاني من تناقضات نفسية عدة ترجع أسبابها إلى انتماء عائلته إلى ضحايا الهولوكوست. وعلى رغم هذا الانتماء البعيد، قال أنه يشعر بأنه وِلد وعاش في عالم آخر. عندما أعلن حزب العمال برنامجه السياسي والاقتصادي والعمراني لخوض الانتخابات، هاجمه بعنف رئيس بلدية لندن بوريس جونسون، وكتب في جريدة «الدايلي تلغراف» يقول أن ميليباند يخطط لنسف مدننا بأسلحة فتاكة أقوى بكثير من القنابل. كذلك انتقدته الصحف الأخرى لأن أنصاره وزعوا منشورات في منطقة «هاستنغز» تمثله في صورة النبي موسى، وهو يقدم على لوح حجري ست وصايا تختصر برنامجه للسنوات الخمس المقبلة. وفي لقاء مع مندوب صحيفة «التايمز»، قال أحد الناشطين في قسم الإعلام في حزب العمال» أنه سيقترح تثبيت وصايا ميليباند في الحديقة الخلفية لمقر رئاسة الحكومة في 10 داوننغ ستريت بحيث تبقى رمزاً للأجيال المقبلة. وهذا بالطبع سيتحقق لو نجح إد ميليباند في انتخابات 2015. وهناك أمر آخر لم يتحقق أيضاً، هو أن ميليباند وريث بنيامين دزرائيلي (الذي تنصَّر والده) لم يحالفه الحظ كي يعيد مؤسسة «كيرين كايميت» إلى العمل في بريطانيا بعدما ألغاها ديفيد كاميرون!
wmn2yw http://www.FyLitCl7Pf7kjQdDUOLQOuaxTXbj5iNG.com