في كتابه الأخير «النظام العالمي»، جادل هنري كيسنجر بأن ثيودور روزفلت (رئيس الولايات المتحدة في الفترة 1901 - 1909) كان سيدخل الحرب العالمية الأولى في وقت مبكر لو كان هو الرئيس وقتها، وأغلب الظن أنه كان سينهي هذه الحرب بتسوية سياسية تُجنب العالم الحرب الثانية التي بُنيت على تسوية فرساي الهشة والمعطوبة. ثيودور روزفلت هو الرئيس المثالي في نظر كيسنجر لأنه أول من أدرك مغزى قوة أميركا ودورها في العالم. الأهم أنه كان يرى العالم كما هو عليه، لا كما ينبغي أن يكون. في المُقابل: ويلسون - الذي كان رئيسا في وقت الحرب - يُمثل كل ما هو قصير النظر ومنبت الصلة بالواقع في السياسة الخارجية. هو قاد بلاده لدخول الحرب متأخرة، ثم قاد العالم كله نحو تسوية حملت في داخلها بذور الحرب الثانية. أوباما رئيس «ويلسوني» حتى النُخاع. من أسفٍ أن قيادته لأميركا تزامنت مع أخطر أزمات الشرق الأوسط في تاريخه الحديث. الرؤساء «الويلسونيون»، وأوباما ليس أولهم ولن يكون الأخير بينهم، ينزعون إلى تصميم سياستهم الخارجية وفق فكرة مثالية كُبرى. كانت هذه الفكرة هي «حق تقرير المصير» في حالة ويلسون نفسه، وعلى أساسها صيغت اتفاقية فرساي وتأسست عصبة الأمم. أوباما، في المقابل، لديه فكرة أكثر تواضعا. مبدأ أوباما - إذا جاز التعبير - يُمكن تلخيصه في عبارة واحدة: تجنُّب خوض أي نزاعات عسكرية تنطوي على خسائر للقوات الأميركية. لا يُمكن فهم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط من دون استيعاب هذا المبدأ الحاكم الذي دافع عنه أوباما بعزم وتصميم، حتى في مواجهة أركان إدارته ذاتها. انطلاقا من هذا المبدأ انسحبت الولايات المتحدة من العراق وأفغانستان، وقادت عملية إسقاط القذافي - من الخلف! - من دون أي مسؤولية لاحقة عن الوضع في ليبيا، ثم نفضت أيديها كُليا من الحرب في سوريا، بعد أن أطلقت - فعليا - شرارتها الأولى عندما قال أوباما بأن على الأسد أن يرحل، فتصور السوريون أنهم مقبلون على نموذج شبيه بما حدث في ليبيا من تدخل الناتو لإسقاط القذافي فإذا بهم يُتركون لمواجهة النظام الأسدي بصدورهم العارية. الفوضى التي تتمطى في أركان المنطقة اليوم هي نتيجة طبيعية لهذا الانسحاب والتردد الأميركي. طبيعي أن يختل توازن منطقة ارتكز نظامها الإقليمي لعقود طويلة على حضور أميركا، بنفوذها السياسي وقوتها العسكرية على حد سواء. طبيعي أن يشتد التنافس والصراع لملء الفراغ الذي يخلفه الغياب الأميركي. اختارت الإدارة الأميركية سياسة الاحتواء كحل لجميع المُعضلات التي تواجهها في المنطقة. أبرز تجليات هذه السياسة هو الاتفاق الذي تسعى لإبرامه مع إيران بشأن برنامجها النووي، والذي صار واضحا أن مؤداه الاعتراف بإيران كدولة عتبة نووية. من تجليات سياسة الاحتواء كذلك حصر «المسألة الداعشية» في العراق، واعتبار أن «داعش» «مشكلة سُنية» لا بد من دفع القوى السُنية في المنطقة للتعامل معها. سياسة الاحتواء أفرزت نصف تحرك في مواجهة «داعش» في العراق، ونصف احتواء لإيران، ونصف التزام إزاء أمن الخليج، ونصف اعتراف بالنظام الجديد في مصر، وعجزا كاملا في سوريا. هذه السياسة لا يُمكنها مواجهة الأخطار الحالية في المنطقة. قد تؤدي إلى الانتصار في معارك هنا وهناك ضد «داعش» في العراق، ولكنها لن تحسم الحرب. إنها، بحكم التعريف، سياسة تهدف للاحتواء لا الاجتثاث. الاحتواء جوهره تجنب مواجهة الخصم بشكل مُباشر، والسعي إلى تحجيمه وتكبيله بصورة تفاقم تناقضاته الداخلية مع الوقت، إلى أن يصل إلى نقطة الانفجار. هذا لن يحدث مع «داعش»، لأنه قادر - بفرض حصاره في العراق - على الاستناد إلى ظهير استراتيجي في سوريا. النظر إلى «داعش» بوصفه «مشكلة عراقية» هو مكمن الخطأ في الاستراتيجية الحالية. «داعش» مشكلة إقليمية. مولده وتمدده ترافقا مع الحرب الأهلية السورية. تتغذى «الظاهرة الداعشية»، في الأساس، على الهيمنة الإيرانية. أبرز صور تلك الهيمنة هو استمرار الأسد في السلطة على جثث ربع مليون سوري. بقاء النظام الأسدي هو شريان حياة «داعش»، وأكثر ما يُساعدها في الحشد والتجنيد. ماذا أثمرت الاستراتيجية الأميركية لاحتواء «داعش» منذ سبتمبر (أيلول) 2014؟ تحرير مدن، وسقوط أخرى. حصار نسبي لتمدده في العراق، وتوسع غير مسبوق في سوريا. ظن البعض أن مهادنة النظام الأسدي ضرورة لمواجهة «داعش» في سوريا، فإذا بـ«داعش» يتوغل أكثر. ظن آخرون أن بالإمكان مواجهة «داعش» في سوريا من دون التعاطي مع معضلة الأسد، فظهر أن هذا مستحيل. النظام الأسدي اليوم، ولأول مرة منذ عامين، في موضع الدفاع. انكشافه صار واضحا للعيان. غيابه عن المشهد لن يقود لما هو أسوأ في سوريا التي صار نصف سكانها نازحين، وسيطر «داعش» و«جبهة النصرة» على أكثر من نصف مساحتها، ولكنه قد يفتح الطريق أمام استراتيجية صحيحة تقوم على اجتثاث - لا احتواء - «داعش» في سوريا والعراق معا. الطريق لتأمين بغداد يمر عبر إسقاط النظام في دمشق. بديل ذلك هو الاستمرار في النهج الحالي الذي يفرز أنصاف انتصارات وأنصاف هزائم. هذا الوضع لن يقود إلى الاستنزاف الكامل للأطراف، كما تُقدر الإدارة الأميركية، وإنما إلى تصاعد مطرد في الحالة الميليشياوية - السُنية والشيعية - التي تجتاح المشرق العربي. مخطئ من يعتقد أن وضعا كهذا سيظل محصورا في المنطقة، أو أن نيرانه لن تطال سوى أهلها. التأجيل والتردد والنفور من توظيف القوة العسكرية في المشرق العربي، ستكلف الإدارة «الويلسونية» الحالية ثمنا أفدح وتجبرها على مجابهة مخاطر أكبر في المستقبل.