كيف اقترع المواطن التركي في الساعات القليلة الفائتة؟ شأن يعود له، لا لأحد غيره. هذه أصول الديمقراطية، ففي نهاية المطاف القرار للناخب المؤهل للاقتراع، الذي يدفع ضرائبه، ويؤدي واجباته تجاه الدولة التركية، والذي عاش السنوات الماضية وسيعيش السنوات المقبلة تحت سلطة من سينتخبه متحملا مسؤولية خياره. لكن ما قرّره الأتراك أمس سيؤثر، بطريقة أو بأخرى، على جيرانهم في منطقة مأزومة ومهددة بالتقسيم والتفتت وأطماع الهيمنة بفعل مشروع إيران الطائفي وتنامي النزعة الاستقلالية الكردية، واللذين يحظيان بتعاطف أميركي لا لَبس فيه. ولكن قبل مناقشة مصالحنا أو مخاوفنا كعرب إزاء ما ستحمله صناديق الاقتراع، ينبغي القول إن ظاهرة رجب طيب إردوغان وتياره الإسلامي ظاهرة غيّرت بالفعل قواعد اللعبة في تركيا منذ أرسى مصطفى كمال «أتاتورك» مبادئ الدولة القومية التركية. ومن ثم، فشطب إرث «أتاتورك» في بلد عصري بناه وفق أحلامه وقناعاته.. مسألة صعبة. ثم إنه على الرغم من تنامي قوة تيار الإسلام السياسي منذ فرضه نجم الدين أربكان على الخارطة السياسية في تركيا، فقد حافظت القوى العلمانية والليبرالية واليسارية وجماعات غلاة القوميين الطورانيين على وجودها. كذلك اكتشفت الأقليات العرقية واللغوية والمذهبية صوتها الاعتراضي خلال العقود الأخيرة. ويضاف إلى ما سبق أن أسلوب إردوغان «الشخصاني» في العمل السياسي لا يحظى بإجماع حتى في ساحة «الإسلام السياسي» في تركيا، بدليل أن أحد ألدّ خصومه اليوم هو فتح الله غولن، الداعية والمفكّر وراعي المؤسسات الذي يعيش في منفاه بالولايات المتحدة. على هذا الأساس تصدّرت القضايا السياسية والاقتصادية الداخلية التركية اعتبارات المعركة الانتخابية تحت وقع الحملات الإعلامية الناشطة والتهم المتبادلة. غير أن ظروف منطقة الشرق الأوسط الاستثنائية ربطت هذه المرة - ربما أكثر من أي وقت مضى - القضايا الداخلية بالمناخين الإقليمي والدولي. المحنة في سوريا، مثلا، كانت عاملاً واضحًا في المعركة الانتخابية: ففي الداخل التركي مئات الألوف من اللاجئين والنازحين السوريين من العرب والأكراد والتركمان وغيرهم يشكّلون عبئًا اقتصاديًا كبيرًا، ويثير وجودهم جَدلاً سياسيًا حادًا بين القوى المتنافسة. والمنطقة الحدودية الطويلة بين تركيا وسوريا غدت «جبهة حرب» فعلية، وقد تتحوّل خلال فترة غير بعيدة إلى أجزاء من دولة جديدة قد تبصر النور على أنقاض الكيان السوري الذي نعرفه اليوم. وقوى الإرهاب المتطرّف التي تقتل وتهجّر وتشرّد باسم الإسلام ناشطة في سوريا والعراق، البلدين العربيين اللذين يحدّان تركيا إلى الجنوب ويشكلان عمقًا لمخزون التهديد الكردي الانفصالي الذي يقضّ مضاجع أنقرة منذ زمن. ثم إن الخطاب الإسلامي السنّي الحَرَكي الذي يعتمده إردوغان يواجه اعتراضات لا تقتصر على العلمانيين القوميين والليبراليين واليساريين، بل تأتي أيضًا من جماعات مذهبية غير سنّية في الداخل التركي، أكبرها تلك التي يطلق عليها مجازًا اسم «العلوّيين» Alevis (البكتاشيين أو القِزِل باش)، وبعض هذه الجماعات متعاطفٌ صراحةً مع النُّصيريين (العلويين Alawites في سوريا)، مما يعني وجود خطر امتداد ألسنة لهب الفتنة المذهبية أيضًا إلى الداخل التركي. من ناحية ثانية، أمرٌ طبيعي أن يتابع المجتمع الدولي خيار الناخب التركي. فتركيا هي أكبر دولة مسلمة تتاخم أوروبا، وإبان حكمها العثماني الإسلامي كانت علاقاتها إشكالية غالبا مع إمبراطوريات أوروبا المسيحية، واليوم تعيش في قلب القارة جاليات تركية كبيرة. ولكن حتى بعض وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية، الجادة والوقورة، سمحت لنفسها خلال الأشهر الفائتة بشنّ حملات مركّزة مُعادية لإردوغان وحزبه الحاكم، حزب العدالة والتنمية. وعليه، إذا كانت كبريات الدول الأوروبية والولايات المتحدة، التي تعتز باحترامها للديمقراطية وحقوق الإنسان، لا ترى ضيرًا في التدخل بما يفترض أنه خيار ديمقراطي للناخب التركي، يحق لنا كعرب أيضًا أن يكون لنا موقف ممّا تحمله لنا صناديق الاقتراع التركية، للأسباب التالية: أولاً، تركيا جارة كبرى تؤثر فينا ونتأثر بها. من الناحية الجغرافية تمسّنا مباشرة سياساتها الآيديولوجية والمائية والاقتصادية والفئوية، ومن الناحيتين الدينية والتاريخية لا مفرّ من الإقرار بالحقائق، إذ حكمت تركيا «الإسلامية» السنّية معظم بلداننا لفترة قاربت أربعة قرون، ولم تطوَ تلك الصفحة إلا بالحرب العالمية الأولى. ثانيًا، أن التحدّي المتعدّد الوجوه والأسلحة الذي يواجه منطقتنا بات أكبر من «هامش الطمأنينة» الذي اعتدنا عليها. وبالتالي، ما عاد مقبولا المضي في التمنيات بدلا من الاستناد إلى الحقائق. اليوم أمامنا خطران: الإرهاب التكفيري باسم الإسلام، وأولئك الذين استغلوه طويلاً ويزيدون حاليًا جرعة استغلاله لتبرير فرض هيمنتهم على الشرق الأوسط بمباركة دولية باتت مكشوفة. ثالثًا، أن الأزمات المتتالية التي خلقها التحدّي الإقليمي الخطير، أسقطت - أو أضحى من الواجب أن تسقط - قناعات تبيّن أنها كانت في غير مكانها. وهذا ينطبق على قوى عالمية كبرى توهّمنا طويلاً التزامها بالأمن الإقليمي وبتحالفاتها التاريخية، ودول إسلامية كبيرة كان البعض يعدّها رصيدًا مضمونًا في الملمّات، ودول عربية شقيقة كشفت الأزمة السورية تحديدًا أنها غير مقتنعة بأن تمدّد الهيمنة الإيرانية من العراق إلى لبنان عبر سوريا، ومن ثم تطويق شبه الجزيرة العربية عبر السيطرة على اليمن، خطر استراتيجي يهدد مباشرة الأمن الخليجي، بل الأمن العربي ككل. رابعًا، أن ثمة مصالح مشتركة جيو - سياسية عديدة مع «تركيا إردوغان» إذا ما اقتنعت بأن تكون حليفًا وشريكًا لا «مُعلّمًا» أو «آمرًا» للجيران العرب، ذلك أن للعرب والترك «مصلحة مشتركة» في التصدّي للتمدّد الإيراني وضرب التأجيج الفئوي الذي يستثمره هذا التمدّد. ومثلما تعمل طهران اليوم على ابتزازنا إما بقبول هيمنتها أو تعريض دولنا للتفجير والتقسيم والتفتيت عبر جرائم «داعش»، فإن مشروعها يحرّك أيضًا أقليات تركيا فيهدّد أيضًا الوحدة الوطنية التركية. استراتيجيًا، نحن اليوم في معركة واحدة مع «تركيا إردوغان» علينا خوضها معًا شريطة احترامها سيادتنا ومصالحنا، وبخاصة أن منافسي إردوغان السياسيين يقفون في الطرف المقابل. باختصار، يقفون ضدنا علنًا. جريدة الشرق الأوسط