ليس هناك خطأ في العنوان، فقد تعمدت أن أعبر عن إيران باسم الدولة وعن تركيا باسم زعيم الحزب الحاكم ورئيس جمهوريتها لأن القرار الإيراني هو قرار «الثورة الإسلامية» بمفرداتها وجماعاتها، أما القرار التركي الحالي فهو ليس تعبيراً دقيقاً عن إرادة الشعب التركي، خصوصاً بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، إذ إن خلاصة القول هي أن السياسة الخارجية لأنقرة هي السياسة الرسمية للدولة التركية حالياً فقط تجاه العالمين العربي والإسلامي، بل وربما العالم كله. من هنا، يبدو العنوان صحيحاً، فتركيا جرى اختزالها في رجب طيب أردوغان وحزبه بينما إيران كيان ممتد يعبر عن «الثورة الإسلامية» في إطار القومية الفارسية، لذلك حين نكتب عن العرب بين إيران وأردوغان، فإننا نلمس مباشرة علاقات دول الجوار بالقضايا العربية الداخلية والخارجية، وذلك يدفعنا إلى عرض النقاط الآتية: أولاً: إن الصراع الفارسي - العربي ليس وليد العصر، لكنه يذهب بعيداً في أعماق التاريخ حتى أن الفرس استمالوا عرب «المناذرة» ليجعلوا منهم دولة عازلة بينهم وبين باقي الجزيرة وكان ملكهم «النعمان بن المنذر» يمثل «دويلة» تربض على الحدود بين العرب والفرس وعندما جاء الإسلام وانتشر في بلاد فارس ودخلت «الموالي» من العجم وغيرهم من القوميات الوافدة في صدر الدولة العباسية، اختلطت الأمّتان الفارسية والعربية تحت مظلة الإسلام، لكن ظلت النزعة العنصرية لدى الفرس متجذرة وقوية بدليل أنهم قبلوا الإسلام ديناً ورفضوا العروبة ثقافة وظلوا على طقوس آبائهم وأجدادهم على رغم انضوائهم تحت مظلة الخلافة الإسلامية، ولم يتسلل «التشيع» إليهم مع القرن الأول الهجري مثل بقية الشيعة العرب، لكنهم بدأوا التشيع في عهد الدولة الصفوية التي كان أبرز حكامها الشاه إسماعيل الصفوي. لذلك، فإن الصراع العربي - الفارسي هو صراع بين قوميتين وليس صراعاً بين مذهبين دينيين تحت عباءة الإسلام، وقد أصبحت لجمهورية إيران الإسلامية أجندة واضحة في المنطقة تريد بها أن تكون سيد الخليج الأوحد وشرطي الجزيرة العربية، بل والمشرق العربي، مع دور بارز في الشأنين الدولي والإقليمي. وساعدتها على ذلك قوة الدفع الشعبية للمشروع الإسلامي بعد ثورة الخميني واستثمار تراجع المد القومي العربي وابتعاد مصر لفترة عن دورها العربي بفعل سياسات «كامب ديفيد». أفاد الإيرانيون من التطورات المتلاحقة في المنطقة العربية وحققوا مكاسب كبيرة في غرب آسيا والشرق الأوسط حتى انتفخت «الأنا» الإيرانية بفعل المواجهة مع الولايات المتحدة حول الملف النووي لطهران في العقود الأخيرة خصوصاً. ثانياً: إن العلاقات العربية تاريخياً بشبه جزيرة الأناضول علاقات ملتبسة، فقد كانت قبل الإسلام علاقات محدودة وقليلة التأثير. ونظر العرب إلى الأقوام التي تسكن شمال الشام باعتبارهم الروم، فكانت دولة الغساسنة هي الحاجز الفاصل بين القوميات المختلفة شمال الشام وجنوبه. وجاء في القرآن الكريم: «غُلبت الروم في أدنى الأرض»، في إشارة واضحة إلى حروب ما قبل الإسلام وصراع القوميات في ذلك المثلث الذي يمتد ضلعه الأكبر من وسط آسيا إلى البلقان وتصل رأسه حتى وسط أوروبا. وعندما بدأت المسيحية من الشام اعتنق الغساسنة الدين الجديد، لذلك فإن المسيحيين العرب تعود جذورهم إلى تلك الفترة. وظل الغساسنة حراساً لدولة الروم وبقيت دويلة حاجزة بين الروم والعرب. وعندما جاء الإسلام وانتشر في أواسط آسيا ودخلت في الدين الجديد قبائل من أصول مغولية أو تتارية أو تورانية تشكلت على هضبة آسيا الوسطى دولة آل عثمان الذين جاؤوا غزاة وفاتحين من قلب القارة الآسيوية الكبرى. وامتد حكم آل عثمان ما يزيد على ستة قرون حكموا فيها المنطقة العربية والبلقان والشمال الأفريقي، فضلًا عن دويلات آسيا الإسلامية. وتحتفظ الذاكرة العربية بفصول سوداء لجرائم الأتراك في الشام وغيرها من المناطق التي خضعت للاحتلال التركي لقرون عدة. واتسمت عنصرية الأتراك دائماً بمقدار كبير من الاستعلاء على الجنس العربي، وحاولت دائماً استثمار الإسلام لتركيع دول المنطقة والسيطرة عليها وممارسة أشكال الإرهاب على شعوبها. وبقي الإرث العثماني في ذاكرة الأمة العربية شيئاً مقيتاً على رغم تباهي كثير من أبناء الأرستقراطية العربية بأن دماءً تركية تجري في عروقهم تمسحاً بالمحتل الذي جثم على صدورهم قروناً عدة. ثالثاً: اتسمت العلاقات بين الدولة الصفوية الشيعية في إيران والدولة العثمانية السنّية في تركيا بصراع مكتوم بلغ أحياناً حد الصدام العلني وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر في تحفظ وحذر. وهنا يجب أن نعترف بأن اختلاف المذهب الديني بين الدولتين كان عاملاً مساعداً في تأجيج حدة الصراع المكتوم، لكن الأمر تجاوز ذلك ليصبح نوعاً من التنافس الاقتصادي والعسكري ويتحول إلى هاجس من الحذر المتبادل بين الإمبراطوريتين الفارسية والعثمانية على امتداد القرون. وبقي العرب لفترات طويلة كالأيتام على مائدة اللئام وعندما اشتعلت حربان عالميتان في القرن العشرين، فإن العرب دفعوا الثمن في الحرب العالمية الأولى عند انهيار «السلطنة العثمانية» وسقوط دولة الخلافة وتكريس سياسة «سايكس - بيكو» وتأكيد الوعود الغربية لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين. وعلى رغم أن الروايات المتداولة تردد أن السلطان العثماني عبدالحميد رفض الضغوط اليهودية، إلا أن الوثائق التاريخية المتاحة الحديثة تشير إلى أن العثمانيين ناقشوا الأمر ولم يعترضوا عليه برمته بل ساوموا في ذلك خلافاً للانطباع السائد في الكتابات التاريخية عن تلك المرحلة. رابعاً: أريد أن ألح على نقطة مهمة وهي أن الخلاف العربي - الفارسي ليس خلافاً دينياً أو مذهبياً، لكنه خلاف قومي بامتياز بدليل أن العرب ابتعدوا عن الأتراك عندما اتجهت أنقرة إلى علاقات استراتيجية بإسرائيل، على رغم أن العرب والأتراك متحدون في المذهب السنّي الواحد، فالقضية كانت ولا تزال هي الرواسب التاريخية للصراعات العرقية وليس فيها ما يشير إلى أن الدين يلعب دوراً في ذلك. والدليل على هذا أيضاً أن شاه إيران الذي كان داعماً لإسرائيل ظل محل استهجان من الدول العربية لأسباب قومية وليس لاختلافات دينية ويكفي أن نتذكر أن العرش العلوي المصري سمح بزواج الأميرة فوزية ابنة الملك أحمد فؤاد وشقيقة الملك فاروق بشاه إيران محمد رضا بهلوي في أربعينات القرن الماضي، ولم يفكر أحد وقتذاك في الخلاف المذهبي بين أهل السنّة في مصر وأتباع المذهب الشيعي في إيران، فالخلافات دائماً - من وجهة نظرنا - تكمن في الدافع القومي وليس في الإطار الديني. خامساً: لا يخالجني شك من وجود تواصل بين القوى الثلاث غير العربية في تخوم المنطقة وأعني بها إيران وتركيا وإسرائيل، فهذه القوى تلتقي عند مصلحة مشتركة واحدة وهي تقزيم الدور العربي، وإضعاف تأثيره في المنطقة وليس لديها ما يمنع من استخدام الأسلحة كافة في هذا السياق. لذلك، فإن كل عوامل الاختلاف بين العرب وجيرانهم إنما تعود إلى أسباب سياسية بالدرجة الأولى، وما الغطاء المذهبي إلا شكل عام يخفي وراءه عقد التاريخ وحساسيات الجغرافيا ومشاكل أخرى تطفو على السطح بين حين وآخر. لذلك، فإننا نرى أن محاولات التقارب بين إيران وتركيا موجهة بالدرجة الأولى إلى العرب الذين يشاركونهم إقليم غرب آسيا، بل وشمال أفريقيا. وكانت زيارة أردوغان قبل بضعة شهور طهرانَ تعبيراً عن ذلك الذي نشير إليه في محاولة لتطويق المنطقة العربية. وعلى رغم اختلاف وجهتي نظر طهران وأنقرة في عدد من القضايا الإقليمية المهعمة، إلا أنهما تلتقيان عند اللزوم إذ إن الوجود العربي لا يزال حتى الآن يمثل هاجساً لإمبراطوريتي «التخوم»، وأعني بهما الدولة الفارسية والدولة التركية. هذه رؤية لعدد من الملاحظات حول الموضوع المتصل بعلاقات أنقرة وطهران وإمكان التقارب بينهما، على رغم كل نقاط الخلاف المطروحة على امتداد المسافة من العاصمة الإيرانية إلى العاصمة التركية. وسنكتشف دائماً أن الأوضاع الداخلية في كلا الدولتين ليست ذات تأثير محلي فقط، لكنها تتجاوز ذلك إلى دول الإقليم المختلفة. وعلى سبيل المثل، فإن تراجع شعبية أردوغان سيكون له تأثيره بالضرورة في العلاقات التركية - الإيرانية والعلاقات التركية – العربية، بل والأزمة السورية أيضاً. وقد يكون بداية لصعود القوى العلمانية في الدولة التركية، إذ إننا نرى أن النار تحت الرماد في تلك الدولة الآسيوية - الأوروبية المهمة التي دعمت إلى حد كبير «قوافل الإرهاب» لأسباب تتصل برغبتها في استخدام تلك القوافل لتقسيم المنطقة العربية وعودة الهيمنة العثمانية، سياسياً على الأقل ما لم تكن دينياً أيضاً تحت مظلة جديدة لخلافة واهية. أما الفرس فلديهم مرارة تاريخية تجاه العرب والعروبة، وهو أمر يعكس طبيعة الظروف المعقدة التي تمر بها العلاقات بين دول الخليج وإيران في العقود الأخيرة، حيث سكبت «الثورة الإسلامية» الزيت على النار وزادت العقد والحساسيات تأزماً واشتعالاً.