فى المجال العام المصرى، تتعالى اليوم بعض الأصوات اليسارية والليبرالية فى أوساط النخب الفكرية والثقافية والإعلامية والحزبية منددة بالعنف الرسمى ضد المواطنات والمواطنين، ورافضة لانتهاكات الحقوق والحريات بما فى ذلك انتهاك الحق المقدس فى الحياة، وناقدة لتوجهات وأفعال منظومة الحكم / السلطة غير الديمقراطية التى تتسع نطاقاتها على نحو مؤلم وإجراءاتها القمعية التى تجاوزت استهداف أفراد وجماعات معارضة من جهة إلى محاصرة قطاعات شعبية كالشباب والطلاب والفاعليات العمالية المستقلة وتهجيرهم من المجال العام ما لم يمتثلوا «للإرادة الرسمية». ومن جهة أخرى إلى تعطيل سيادة القانون وإنزال العقاب الجماعى بالتنظيمات الوسيطة للناس كالجمعيات الحقوقية والمنظمات غير الحكومية وروابط مشجعى كرة القدم وغيرها، ثم تبرير الحصار والعقاب بالترويج المستمر إما لنظريات المؤامرة أو لهيستيريا تخوين وتشويه وشيطنة غير المدرجين فى المواقع والقوائم الحكومية «للمتمتعين بالقبول والحماية» وبإلغاء التمييز الضرورى بين المعارضة السلمية لمنظومة الحكم / السلطة وبين حمل السلاح وتوظيف الإرهاب والعنف لاستباحة دم المواطن والإجهاز على المجتمع والدولة الوطنية. أوجه التحايل غير أن ظاهرة تعالى بعض الأصوات اليسارية والليبرالية بالتنديد والرفض والنقد اليوم تغلفها بعض أوجه التحايل التى تذهب بمصداقيتها الأخلاقية ونجاعتها المجتمعية. فنفس هذه الأصوات اليسارية والليبرالية صمتت طويلا على ممارسات العنف الرسمى والانتهاكات الكارثية للحقوق والحريات، بما فى ذلك انتهاك الحق المقدس فى الحياة، التى أحاطت منذ صيف 2013 بالقمع والتعقب الأمنيين لبعض أطياف اليمين الدينى وطالت فى بعض الأحيان بعشوائية ساحات مجتمعية أخرى – فضحايا العنف والانتهاكات لم يسقطوا فقط فى فض الاعتصامات والمسيرات، بل سقطوا أيضا فى جريمة سيارة الترحيلات وغيرها من الجرائم. كذلك عجزت هذه الأصوات عن المسارعة إلى المطالبة العلنية منذ صيف 2013 بحتمية التزام المؤسسات والأجهزة الرسمية بمقتضيات العدل وسيادة القانون عند توظيف الأدوات العسكرية والأمنية لمواجهة عصابات الإرهاب والعنف، وبضرورة المزج بين الأدوات العسكرية والأمنية وبين الوسائل التنموية والمجتمعية والقانونية لكى لا يزج بمصر إلى دوائر العنف والعنف المضاد ويهدد السلم الأهلى وتماسك الدولة الوطنية ولكى لا تتمدد قابلية بعض البيئات المحلية للإرهاب وللعنف بفعل غياب التنمية وحضور المظالم والانتهاكات والتهميش. كما أنها أخفقت منذ صيف 2013 فى تنبيه الناس على نحو فورى وجلى إلى خطر السلطوية الكامنة وراء طغيان الأمنى على كل ما عداه فى توجهات وأفعال منظومة الحكم / السلطة، ووراء تخيير المواطن وتنظيمات المجتمع الوسيطة بين الامتثال «للإرادة الرسمية» وبين التعرض للحصار وللعقاب الجماعى وصولا إلى التهجير الشامل من المجال العام عبر قوانين قمعية (قانون التظاهر كمثال)، وتعديلات قانونية قمعية (تعديلات قانون العقوبات وقانون الجامعات كنموذجين)، وممارسات قمعية سالبة للحرية (الحبس الاحتياطى غير المقيد بحدود زمنية قصوى والفصل التعسفى لبعض طلاب الجامعات)، وسيطرة أمنية على الإعلام تغيب الحقائق والمعلومات وتفرض الرأى الواحد والصوت الواحد. ولم يكن لصمت وعجز وإخفاق الأصوات اليسارية والليبرالية المشار إليها هنا منذ صيف 2013، بل ولتورط بعضها من مدعى «الحكمة اللاحقة» فى التبرير العلنى للعنف الرسمى ولانتهاكات الحقوق والحريات وفى الدفاع عن توجهات وأفعال منظومة الحكم / السلطة غير الديمقراطية إن بحثا عن الاقتراب من المواقع التنفيذية والتشريعية «للمتمتعين بالقبول والحماية» أو للاحتراز من القمع الرسمى أو تماهيا مع هيستيريا التخوين والتشويه والشيطنة، سوى العديد من التداعيات الكارثية أبرزها انهيار الادعاء باتساق مبادئهم وقيمهم كمعبرين عن اليسار والليبرالية فى مصر مع الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، وانتفاء المصداقية الأخلاقية والنجاعة المجتمعية لتنديدهم ورفضهم ونقدهم الحالى للعنف الرسمى وللانتهاكات وللسلطوية الجديدة، وشيوع انطباع تعميمى بين بعض القطاعات الشعبية كالشباب والطلاب وبين بعض الفاعليات العمالية مؤداه عدم جاهزية اليسار والليبرالية فى مصر لتحمل عبء وكلفة الطلب على الديمقراطية. الظاهرة الثانية خلال الأيام القليلة الماضية، أعلنت بعض الأحزاب والتيارات اليسارية والليبرالية مقاطعتها للانتخابات البرلمانية القادمة. وعللت الأحزاب والتيارات هذه مقاطعتها 1) بالنزوع السلطوى والنواقص الكثيرة فى النظام الانتخابى المتبع الذى استأثرت منظومة الحكم / السلطة بوضعه دون حوار مجتمعى وعلى نحو ليس له إلا أن ينتج برلمانا مفككا بلا أجندة تشريعية ورقابية واضحة سوى الخضوع «للإرادة الرسمية» ولنفوذ ومصالح أصحاب الثروات ورجال العصبيات والمتمتعين «بقبول وحماية» المؤسسات والأجهزة الرسمية، 2) بالبيئة المجتمعية المحيطة بالانتخابات البرلمانية القادمة وجوهرها سطوة الرأى الواحد والصوت الواحد وهيستيريا التخوين والتشويه ووتراكم انتهاكات الحقوق والحريات وغياب مساءلة ومحاسبة المتورطين فى الانتهاكات وطغيان الأمنى على كل ما عداه فى توجهات الحكم / السلطة، 3) بالممارسات القمعية والإجراءات العقابية التى تعانى منها الأحزاب والتيارات المعارضة وتحول بينها وبين التواصل مع القطاعات الشعبية المختلفة وبينها وبين العمل الجماهيرى الجاد. أوجه التحايل تلزم القراءة الموضوعية لملف الانتخابات البرلمانية القادمة بالتشديد على أن نقد النزوع السلطوى للنظام الانتخابى والإشارة إلى التفكك المتوقع للبرلمان الجديد واستتباعه المرجح من قبل «الإرادة الرسمية» لم يقتصر بحال من الأحوال على الاحزاب والتيارات المتجهة إلى مقاطعة العملية الانتخابية. فبعض الأحزاب والتيارات ومبادرات «تشكيل القوائم الانتخابية» العازمة على المشاركة، وغير الخاضعة بالكامل «للإرادة الرسمية» أو غير المنضوية تحت عباءة «تأييد ودعم» منظومة الحكم / السلطة، عبرت عن ذات النقد وصاغت ذات التخوفات. وهى بمشاركتها الانتخابية وسعيها للحصول على شىء من التمثيل البرلمانى ربما تبحث عن التأثير بإيجابية وبمضامين ديمقراطية فى الملفات الكثيرة التى ستطرح على البرلمان الجديد (ومن بينها مراجعة القوانين العديدة التى أصدرتها السلطة التنفيذية بإرادة منفردة فى الآونة الأخيرة، والاستحقاقات التشريعية المرتبطة بالدستور، وقضايا التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وغيرها). وذلك نهج له وجاهته الأخلاقية والمجتمعية ويتعين على "المقاطعين" الابتعاد عن التحايل عليه باستخفاف منتقد أو باستعلاء زائف، ودون إسقاط لحق المقاطعين الأصيل فى الدفع بعدم ملاءمة النظام الانتخابى والبيئة المجتمعية لمشاركة حرة وتعددية ومؤثرة فى الانتخابات القادمة وبمعارضتهم لخطر اقتصار التمثيل البرلمانى لغير المنضوين تحت عباءة "تأييد ودعم" الحكم على ديكور لا وظائف حقيقة له ولا جمال به، ودون تورط فى ازدواجية المعايير المرتبة لعدم الاعتراف بالآخر لأن الأحزاب والتيارات المقاطعة تطالب دوما بعدم اختزال مواقفها فى «عنتريات» الرفض والممانعة. كذلك تلزم القراءة الموضوعية لملف الانتخابات المقبلة، بل تلزم مقتضيات الأمانة فى مخاطبة القطاعات الشعبية المختلفة من قبل الأحزاب والتيارات المتجهة إلى المقاطعة ومقتضيات إعمالها للنقد الذاتى وهى تبحث عن توسيع هوامش وجودها فى المجال العام، بإدراك وجه تحايلى إضافى يتورط به المقاطعون. فالمؤكد أن الضعف البين للقدرات البشرية والتنظيمية والتمويلية لأغلبية هذه الأحزاب والتيارات ينتج بغض النظر عن جميع العوامل الأخرى استحالة عملية لخوضها الانتخابات البرلمانية القادمة، أى لم يكن ليمكنها من المشاركة الانتخابية الجادة حتى بافتراض حضور نظام انتخابى ديمقراطى الجوهر وحضور بيئة مجتمعية ملائمة. لا أنازع فى حقيقة أن ضعف القدرات البشرية والتنظيمية والتمويلية لأحزاب وتيارات غير منضوية تحت عباءة «تأييد ودعم» الحكم / السلطة يرتبط جزئيا بوضعيتها هذه وبالقيود التى تواجهها من جرائها، غير أن فى تسبيب الضعف بوضعية المعارضة فقط وفى تجاهل الإخفاقات الذاتية لهذه الأحزاب والتيارات وجه تحايل جلى يئن منه المجال العام المصرى اليوم. *نقلا عن جريدة "الشروق" المصرية