الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تحل نفسها بنفسها، ولا تذوب أو تتحلل بمرور الزمن، بل تحتاج إلى الصدق مع النفس ومع الآخرين، واتخاذ الخطوات العملية الشجاعة الكفيلة بتغيير واقع مرفوض. ولدى التفكير في سياسة الرئيس باراك أوباما إزاء منطقتنا تذكرت المقولة الشهيرة للسياسي الأميركي الراحل هنري كلاي: «سيدي، أفضل أن أكون على صواب من أن أكون رئيسًا». اليوم بالإمكان اختصار مقاربات واشنطن في العراق وسوريا ولبنان بما يلي: في العراق، دعم السلطة التي تعاون غزو 2003 والتمدّد الإيراني في تنصيبها. وفي سوريا، تجاهل المآسي و«الخطوط الحمراء» بعد مرور 4 سنوات و3 أشهر من الانتفاضة الشعبية. وفي لبنان، القبول الضمني بهيمنة حزب الله على مقدّرات البلاد في أعقاب صيغة القرار الدولي 1701 «التحييدية» عن حدود إسرائيل. في الحالات الثلاث كان وراء المقاربات الأميركية التحمّس المطلق للتفاهم مع إيران، والاستفادة من وجود حالة «داعشية» متطرّفة تبرّر هذا التفاهم، ومن ثم تطويره إلى تحالف كامل. هذه القراءة تختلف ظاهريًا عن مضمون تقرير وزارة الخارجية الأميركية السنوي عن الإرهاب في العالم عن عام 2014، الذي نشر بالأمس، وبالأخص إزاء إيران وبعض أتباعها في المنطقة؛ إذ وردت في التقرير اتهامات، بل إدانات، لحزب الله اللبناني على ما يفعله داخل لبنان وخارجه، وتوّجت بوصف الحزب بـ«التنظيم الإرهابي الأبرز والأقوى في لبنان»، واتهامه بأنه تسبب باستثارة ردّات فعل «سنّية متطرّفة»، فضلاً عن استدعاء تنظيمات متطرّفة مثل «داعش» و«جبهة النصرة» إلى الداخل اللبناني. وأخيرًا وليس آخرًا، أشار التقرير صراحةً إلى أن «الحرس الثوري الإيراني له وجود في لبنان منذ بداية الثمانينات، وهو ينسّق عن كثب مع (حزب الله) في شأن العمليات العسكرية والتدريب». هذا في لبنان، حيث لا رئيس للجمهورية بعد مرور أكثر من سنة على شغور منصب الرئاسة، وحيث يمنع حزب الله انتخاب رئيس جديد.. إلا إذا كان النائب ميشال عون المستعد لأن يكون «نسخة لبنانية عن حسن روحاني» تحكم تحت سلطة «المرشد»، الذي هو في هذه الحالة أمين عام حزب الله. أما في العراق، فيبدو أن واشنطن مقتنعة بأنها أنجزت ما فيه الكفاية عبر تنحية نوري المالكي والاستعاضة عنه بزميله ورفيقه حيدر العبادي، بل يظهر أنها تريد أن تصدق، وتريدنا أن نصدقها، بأن العبادي بوجود أمثال هادي العامري وقيس الخزعلي و«طائفية» الحشد الشعبي، وسير القيادة الكردية باتجاه إنجاز الاستقلال الفعلي، قادر على محاربة «داعش» وإعادة بناء «عراق واحد» يعيش مواطنوه سواسيةً في ظل سيادة القانون. ولكن المشهد المأساوي يتكامل في سوريا، حيث لم يطرأ تغيّر جدّي على المقاربة الأميركية بعد أربع سنوات وبضعة أشهر من الانتفاضة الشعبية. وخلال هذه الفترة قُتل من السوريين أكثر من 350 ألفا وهُجّر وشُرّد أكثر من عشرة ملايين، واستخدمت في قتلهم كل أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة المحظورة دوليًا. مرارًا طرح اقتراح إنشاء «مناطق حظر طيران» و«ملاذات آمنة» في المناطق الحدودية تقي السوريين حِمم القصف وأصناف السموم، إلا أن إدارة أوباما كانت ترفض هذا الإجراء الدفاعي الهادف أساسًا إلى حماية المدنيين الأبرياء، بحجة أنه يستوجب التزامات ميدانية، مع أنها فعلت ذلك عندما هدّدت «داعش» العراق. وبمرور الوقت تبين أن سوريا كلها غدت «ملاذات آمنة» لكل ألوان المتطرّفين المتوافدين عليها من أقطار الدنيا لخوض «حرب دينية غير مقدّسة»... على حساب مصلحة الشعب السوري، وعلى أنقاض مدنه وأحلامه ومستقبل أبنائه. لقد شكّل المسلمون العرب السنّة معظم وقود حرب السنوات الأربع من المدنيين، وكانت خسائر الطوائف الأخرى، وبالذات الطائفة العلوية، كبيرة على صعيد العسكريين، غير أن الحرب السورية تتجّه الآن نحو مرحلة أخرى خطرها من نوع مختلف. نحن الآن، على الأرجح، في طريقنا إلى مرحلة رسم خرائط التقسيم بعدما تراجعت قدرات نظام آل الأسد على الصمود على الرغم من الدعم السخي الذي تلقاه ويتلقاه من رعاته الإقليميين. وبالنظر إلى أن خيار الهيمنة انتهى، ما عاد أمام النظام وداعميه سوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه مجسّدًا بما درج البعض على تسميته «سوريا المفيدة»، في الجزء الغربي من البلاد. وهذا، بعد استحواذ «داعش» على وسط بادية الشام، وبعد مباشرة الانفصاليين الأكراد رسم حدود منطقتهم على امتداد الحدود التركية. ولكن تفاصيل الحدود ما زالت تنتظر اللمسات النهائية، فهل يسكت العرب عن تهجير تل أبيض، وتستسلم تركيا إزاء ضم الأكراد مدينة أعزاز والبلدات التركمانية، في ريف حلب، لتسهيل مدّ الكيان الكردي إلى عفرين، ومنها إلى البحر؟ وماذا سيفعل المسيحيون في حال تحوّل التقسيم إلى حقيقة واقعة، وهم الذين يتوزّعون على معظم المحافظات، ويشكلون نسبة عالية من سكان المدن؟ وهل يستطيع العلويون الانفراد بدولة علوية يشكل سنّيو المدن (اللاذقية وبانياس وطرطوس وجبلة) نسبة كبيرة من سكانها؟ وكيف يتصرّف الدروز الذين لا يريد لهم النظام البقاء على الحياد ولا يثق بعض المعارضين بميلهم إلى الحياد؟ وماذا سيحلّ بباقي الأقليات مع انحسار شبكة الأمان وتصاعد الرغبة في الحسم؟ إسرائيل، التي التزمت الهدوء طيلة أربع سنوات، تتحرّك الآن لحجز مكانها عندما لاح لها أنه أوان فرض «الحمايات» كمبرّر لطمأنة الأقليات أو كسب ولائها. وبدأت التلميح من منطلق «التجاوب» مع ضغوط أقليتها الدرزية لحماية دروز سوريا. وكانت تركيا قد لوّحت مرارًا أنها لن تقف مكتوفة الأيدي... مع أنها وقفت. «الملاذات الآمنة» في شمال سوريا وشمالها حلٌ مناسب آن أوانه رغم استمرار السلبية الأميركية، لأنها إذا أقرّت بالتنسيق مع الأردن جنوبًا ومع تركيا شمالاً، فستقطع الطريق في الجنوب على إقحام إسرائيل وإرباك المعادلة الإقليمية، وقد تحول في الشمال دون الانزلاق نحو «دويلة كردية» تخلق من المشكلات أكثر مما تحلّ. بل إنها قد تشكّل الحل.. حتى في اليمن!