مشروع الوحدة الوطنية الذي نال نصيباً كبيراً من نقاشات الشوريين، وضاقت به قاعة المجلس الفسيحة، ونفوس أعضائه لتمتد نقاشاته إلى فضاء الانترنت الذي رأوه أكثر رحابة وأكثر اتساعاً، يكشف إلى أي مدى نمعن في تناقضاتنا حتى على مستوى النخب. فالجدل والنقاش أمر مهم ومرحلة ضرورية ومؤشر حيوي في نضوج المجتمعات ومقياس لحجم ثقافة ذلك المجتمع، وعندما يحدث أن تبدأ النخب في تداول قضية أو أمر ما يخص الشأن العام يفترض أن يكون لهذا النقاش والجدل وزنه وقواعده وأسسه التي لا يحيد عنها ولا يخرج، فيغدو نقاشاً عاماً لا يمكن أن يفي بالمطلوب منه فيصير كلاماً دون وزن أو اعتبار. ما حدث خلال الفترة الماضية من أجل تشريع نظام للوحدة الوطنية وأدى التصويت عليه إلى معارضة 74 عضواً في المجلس لتمريره بحجة أن النظام الأساسي للحكم في المملكة قد حمى الوحدة وكفلها ولم يفرق في إعطاء وعدالة الحقوق بين المواطنين على حسب مناطقهم أو قبائلهم أو طوائفهم، في المقابل قدم المؤيدون وعددهم 47 عضواً مبررات لضرورة تشريع هذا النظام من ضمنها أهمية وجود نظام يجرّم العنصرية والتصرفات على أساس قبائلي أو عرقي أو طائفي.. وفي الواقع أننا لا نشك في حب الجانبين لهذا البلد وحرصهم على وحدته، لكن تداعيات إقرار هذا المشروع تكشف لنا إلى أي مدى يضيق صدرنا برأي الآخر المخالف ليس على مستوى العامة، بل على مستوى النخب التي يفترض بها الدفاع عما تعنيه ديموقراطية اتخاذ القرار واحترام ما تؤول إليه نتائجه، وأن الرضا بالربح والخسارة هو روح الديموقراطية التي نتغزل بمزاياها عندما ترجح كفتنا ونعدد مثالبها عندما تخوننا. إن ما دار في معرض إقرار المشروع من التقليل في وطنية الأعضاء الذين صوتوا برفض المشروع، واعتبار أن ذلك يكشف عن طائفية متغلغلة في المؤسسات، وبين آخر مقلل من هذا المشروع باعتبار تلك "الوريقات" لا يمكنها حماية الوطنية. وانتقال ذلك للنخب الإعلامية التي انزلقت دفاعاً أو هجوماً، والأدهى من ذلك هو زجّ العامة في هذا الموضوع من خلال طرحه من قبل "الشوريين" أنفسهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنه يستجير بمتابعيه لتأييده فيما عارضه فيه المجلس. يجدر اليوم بالنخب في المملكة على كل المستويات إظهار قدرتهم على الترويج لمفهوم تقبّل الرأي والرأي الآخر للعامة، وجعل جدالنا وحواراتنا مثمرة وذات فائدة، واعتبار ذلك من علامات نضج المجتمعات، وليس تغذية مفاهيم فرض القرار وتقديس الآراء وتهميش الآخرين، لأنهم لا يوافقونني في الرأي.